الجمعة، 15 مايو 2009


مشاهد مقدسية من زمن الحروب الصليبية 1ـ2

المشهد الأول: ذات صباح غائم من أيام شهر نوفمبر 1095م، وفي حقل فسيح بين التلال في أوفريني Auvregne خارج كليرمون Clermont في الجنوب الفرنسي، وقف البابا أوربان الثاني Urban II ، الفرنسي الأصل، يلقي خطبة حماسية كانت بمثابة "إعلان حرب" ضد المسلمين(1 ).
وداعبت كلمات البابا التي جمعت بين التهم الكاذبة والدعاية الظالمة ضد المسلمين، وبين التعصب النزق والتحريض الحماسي ضدهم، أوتار الطمع والعنف، والتدين الظاهري، والطموح السياسي والعسكري في نفوس الحاضرين الذين كانوا مزيجا من الفرسان والنبلاء الإقطاعيين.

وكانت الخطبة والاستجابة الحماسية من جانب الحاضرين نوعًا من المسرحيات التي تم توزيع الأدوار فيها مسبقا؛ إذ تمثلت هذه الاستجابة من جانب الحاضرين في صيحة حماسية بعبارة "الرب يريدها... الرب يريدها"(2 ). وهكذا بدأت الحروب الصليبية...

يوم المذبحة

المشهد الثاني: في يوم قائظ من شهر يوليو 1099م سقطت مدينة القدس ودخلها الفرنج الصليبيون، بعد حصار استمر خمسة أسابيع، وأعقبت سقوط المدينة المقدسة مذبحة رهيبة، وأبيحت المدينة وسكانها على مدى ثلاثة أيام للنهب، والسلب، والقتل، وبقيت الجثث مطروحة في أرجائها وشوارعها عدة أيام...

وفي هذا الجو الموحش الكئيب، الذي يلفه الدخان والغبار، وتغلفه الروائح الكريهة المنبعثة من المنازل المحترقة، والجثث العفنة، اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة لأداء صلاة الشكر، وترددت عبارة "نشكرك يا رب" في أرجاء الكنيسة العتيقة(3 )، وهكذا، بدأ الوجود الصليبي على الأرض العربية...

المشهد الثالث: في يوم من أيام شهر أكتوبر سنة 1187م (27 رجب سنة 538 هجرية)، صلاح الدين الأيوبي يدخل القدس المحررة على رأس قواته بعد أن ظلت في الأسر بضعا وثمانين سنة.

وفي هذه المرة كان المشهد إنسانيا يناقض المشهد الوحشي الهمجي الذي صاحب الغزو الفرنجى الصليبي للمدينة، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة زمنا طويلا(4 ).

وهكذا بدأت نهاية الوجود الصليبي على الأرض العربية...

كانت هذه المشاهد الثلاثة التي دارت حولها قصة القدس في عصر الحروب الصليبية؛ بيد أن المشهد الأخير وحده هو المشهد الذي تهتم به هذه الدراسة؛ إذ إن ملحمة التحرير التي قادها صلاح الدين الأيوبي بدأت منذ اللحظات الدامية التي سقطت فيها المدينة أمام جحافل الفرنج الظالمة في السنة الأخيرة من القرن الحادي عشر الميلادي حقا، كما أن القدس كانت رمزا وعنوانا للوجود الصليبي "مملكة بيت المقدس" حقا، ولكن "صلاح الدين" كان رمزا وعنوانا على المقاومة والجهاد الإسلامي ضد العدوان، وكان هو الذي كرَّس حياته لتحرير القدس على نحو ما سنرى في هذه الدراسة.

مسببات النصر والهزيمة

لم يكن انتصار الصليبيين في الحملة الصليبية الأولى واستيلاؤهم على بيت المقدس تعبيرا عن توازن القوى الحقيقي بينهم وبين المسلمين؛ وإنما كان نتيجة لحال من التشرذم السياسي وميراث الشك والمرارة بين حكام المنطقة العربية، الذين أعمتهم الأنانية السياسية وقصور النظر، وخمول الهمة، عن رؤية مصالح الأمة.

من ناحية أخرى كانت القوتان الأساسيتان في المنطقة (الخلافة العباسية السنية في بغداد والخلافة الفاطمية الشيعية في القاهرة) تتنازعان النفوذ والسلطان وتشتركان في مظاهر الوهن والضعف، وكانت الدويلات والإمارات القزمية في بلاد الشام تشكل فسيفساء سياسية لا يوازيها إلا الفسيفساء العرقية والدينية والمذهبية في هذه البلاد.

وفي تقديري أنه لا يمكن تفسير نجاح الحملة الصليبية الأولى سوى في ضوء هذه الاعتبارات المتعلقة بالمنطقة العربية نفسها، فقد كان الصليبيون أقل عددا وعدة، وأدنى في مستواهم الحضاري وأساليبهم العسكرية من المسلمين، ولكنهم انتصروا.

ولم يكن هذا الانتصار ناتجًا عن تدخل الرب والقديسين إلى جانب الصليبيين، كما زعم مؤرخو الحملة الصليبية الأولى الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة الكاثوليك بطبيعة الحال.

لقد كان نجاح الصليبيين في إقامة مملكة وثلاث إمارات على الأرض العربية في فلسطين وبلاد الشام صدمة نفسية لسكان المنطقة العربية الذين ظنوا في البداية أن الصليبيين قوم من المرتزقة العاملين في خدمة الإمبراطورية البيزنطية؛ ولكن ما جرى في سنة 1099م وما بعدها جعلهم يدركون أن الصليبيين جاءوا إلى بلادهم بقصد البقاء، وبرزت أمامهم حقائق جديدة مؤلمة على المستوى السياسي والعسكري(5 ).

وكان لا بد أن يتصاعد رد الفعل من جانب المسلمين، ففي الشمال كان الأتراك السلاجقة يشنون هجماتهم العنيفة على الفرنج الصليبيين، كما أسروا الأمير بوهيموند حاكم أنطاكية الصليبي، وبلدوين كونت الرها، وجوسلين، وأنزلوا عدة هزائم فادحة بالصليبيين.

وفى الجنوب، شن المصريون الهجمات من قاعدتهم في عسقلان بفلسطين، وأنزلوا بعض الهزائم بالصليبيين في سنوات 1101م ، 1102م ، 1105م؛ ولكنهم توقفوا بعد هذا التاريخ بسبب مشكلاتهم الداخلية(6 )، وفي سنة 548 هجرية / 1153م تمكن الصليبيون من الاستيلاء على عسقلان التي كانت آخر المعاقل المصرية في فلسطين.

ضعف الدولة الفاطمية

كانت الدولة الفاطمية قد وصلت إلى حال من الضعف الذي أغرى القوى المجاورة من المسلمين على السواء بمحاولة الاستيلاء على تركة "الرجل المريض" الراقد على ضفاف النيل، ولم يكن هذا "الرجل المريض" سوى الدولة الفاطمية التي لم يبق لها من مجدها القديم سوى ظل باهت وذكريات غابرة.

وهكذا بدأ السباق بين نور الدين محمود (الذي خلف والده عماد الدين زنكي الذي نجح في تحرير الرها سنة 1144م) وأمالريك الأول ملك بيت المقدس الصليبي (1163م- 1174م)(7 ) الذي عرفته المصادر التاريخية العربية باسم "عموري" للفوز بحكم مصر.

ثم جاءت الفرصة تسعى للطرفين اللذين لم يتردد أي منهما في الإمساك بها، فقد اندلع الصراع على كرسي الوزارة الفاطمية الذي كان من يجلس عليه هو صاحب السلطة الفعلية(8 )، وفي خضم هذا الصراع، سعى شاور إلى طلب المساعدة من نور الدين محمود.

ومن ناحية أخرى؛ قرر عموري انتهاز الفرصة للزحف على مصر، وجاء الجيش الإسلامي بقيادة "أسد الدين شيركوه"، وكان معه في الجيش ضابط شاب في السابعة والعشرين من عمره؛ هو صلاح الدين الأيوبي الذي ظهر اسمه للمرة الأولى على المسرح السياسي في المنطقة العربية ليصير في غضون سنوات قليلة شخصية ملء القلب والعين واللاعب الرئيسي على هذا المسرح، والمحرك الأول للأحداث في المنطقة.

وبعد عدة تقلبات درامية في الأحداث، انتهت بمصرع كل من ضرغام وشاور المتنافسين على كرسي الوزارة، وخروج الصليبيين من السباق خاسرين بعد ست جولات(9)، تولى أسد الدين شيركوه الوزارة الفاطمية وحمل لقب "الملك المنصور أمير الجيوش"(10 )؛ ولكنه لم يلبث أن توفي بعد حوالي تسعة أسابيع في يوم 22 جمادى الآخرة سنة 564 هجرية / 1169م.

ولم يتردد الخليفة العاضد الفاطمي، وآخر سلالته في حكم مصر، واختار القائد الشاب صلاح الدين وزيرًا له دون أن يلتفت إلى مطالب الأمراء الكبار أو مطالبهم.... وبدأ نجم صلاح الدين يتألق في سماء السياسة بالمنطقة العربية.

إستراتيجية التحرير

هذه الدراسة لا تهدف إلى عرض سيرة صلاح الدين الأيوبي؛ وإنما تهدف إلى متابعة جهوده السياسية والعسكرية التي شكلت إستراتيجيته لتحرير القدس من الفرنج الصليبيين، وبدأ صلاح الدين مسيرته بتوطيد سلطته ومركزه السياسي في مصر وعيناه مفتوحتان على الجبهة الداخلية في القاهرة من ناحية، وعلى نور الدين محمود صاحب السيادة الشرعية وما يمكن أن تنتهي إليه الأمور بينهما من ناحية أخرى.

ففي الداخل كانت تواجهه مشكلة سياسية / عسكرية؛ لأن الجيش الفاطمي الذي عاش زمنا طويلا في أجواء التآمر، والتآمر المضاد، بين المتنافسين على السلطة لم يكن يدين بالولاء للخليفة العاضد الفاطمي نفسه.

وجاءت الفرصة لتدمير الجيش الفاطمي تسعى إلى صلاح الدين عندما قام أحد الخصيان في القصر الفاطمي اسمه، "مؤتمن الخلافة جوهر"، بالتآمر مع الفرنج الصليبيين لغزو مصر والقضاء على صلاح الدين، وتم اكتشاف المؤامرة، وأعدم مدبروها، ثم أطبقت قوات صلاح الدين على الجنود السود الذين كانوا يشكلون قوات المشاة في الجيش الفاطمي، وجرت مذبحة رهيبة على مدى يومين قضت عليهم تماما(11 ).

كانت النتيجة السياسية المباشرة لهذه الحادثة أن ازداد نفوذ صلاح الدين وسطوته في مقابل تقلص نفوذ الخليفة العاضد الفاطمي، وأخذ صلاح الدين يحكم قبضته على الأمور الداخلية تماما؛ فعيَّن "بهاء الدين قراقوش الأسدي" مشرفا على شئون قصر الخلافة بدلا من "مؤتمن الخلافة" المقتول، ثم أخذ يبني مؤسسته العسكرية الخاصة بدلا من الجيش الفاطمي، أما علاقته بنور الدين محمود فظلت تراوح مكانها بين الشك واليقين.

ثم جاءت سنة 565 هجرية / 1169م لتشد انتباه صلاح الدين إلى حقيقة المخاطر التي يمثلها الوجود الصليبي في المنطقة العربية، ففي عملية عسكرية مشتركة تحالف الصليبيون بقيادة ملكهم الطموح "عموري الأول" مع البيزنطيين بقيادة الإمبراطور "مانويل كومنينوس" (1143م- 1180م)، وشنوا هجوما على دمياط التي كانت الميناء المصري الرئيسي في البحر المتوسط، والتي كانت هدفا مفضلا للحملات الصليبية البحرية.

وفي شهر صفر من هذه السنة نزلت القوات الصليبية على ساحل دمياط بمساندة الأسطول البيزنطي الذي كان مؤلفا من مائتي سفينة، واستمر الحصار على دمياط واحدا وخمسين يوما دون أن يسفر عن أي نتائج إيجابية.

وبينما كانت مقاومة المدافعين عن المدينة عنيفة وبطولية، كشفت العداوة الكامنة بين الفرنج والبيزنطيين عن وجهها القبيح، وانتهى الأمر بخيبة كبيرة للمهاجمين، وحرق "عموري" معداته قبل انسحابه من المعركة على حين تكبد الأسطول البيزنطي خسائر جسيمة في الرجال والسفن قبل أن ينسحب عائدا إلى بلاده(12 ).

ومن ناحية أخرى، كانت تلك الهزيمة العسكرية التي حاقت بالتحالف الصليبي / البيزنطي انتصارا سياسيا لصلاح الدين أضيف إلى رصيده وزاد من مكانته، وكان ذلك النصر بداية طيبة لسلسلة من التصرفات السياسية والإجراءات العسكرية التي اتخذها صلاح الدين وشكلت إستراتيجيته لتحرير القدس...

ففي العام التالي 566 هجرية / 1170م شن صلاح الدين هجومًا على الصليبيين واسترد منهم غزة، وهاجم عسقلان والرملة، ثم خرج في شهر ربيع الأول من السنة نفسها إلى ميناء آيلة على البحر الأحمر (العقبة حاليا) ومعه المراكب مفصلة على ظهور الإبل، وهناك أعيد تركيبها لتنزل المياه وتستولي على الميناء لتحرم الصليبيين من المنفذ الوحيد لهم على البحر الأحمر(13 ).

وبذلك ضمن صلاح الدين السيطرة على طريق التجارة البحري الذي كانت تمر به بضائع المحيط الهندي غالية الثمن، كما ضمن أمن البحر الأحمر.

لقد كان على صلاح الدين أن يمزج بين العمل السياسي، والفعل العسكري، والإجراء الاقتصادي لكي يصل إلى هدفه النهائي: تحرير القدس من الفرنج الصليبيين.

النفوذ السياسي لصلاح الدين

وفي القاهرة أخذ صلاح الدين يقوي نفوذه السياسي من جهة، ويتخذ الخطوات اللازمة لتقوية الوضع العسكري من جهة أخرى، فقبض على أمراء الدولة الفاطمية واستولى على إقطاعاتهم وأحل محلهم الأمراء الشاميين الذين جاءوا معه.

بيد أن صلاح الدين تمهل في إعلان نهاية الدولة الفاطمية حتى حانت اللحظة المناسبة؛ وفي أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة 567 هجرية / 1171م أقيمت الخطبة للخليفة العباسي، وقطعت الخطبة للخليفة العاضد الفاطمي الذي مات في اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه دون أن يدري أنه آخر الخلفاء الفاطميين(14 ).

وهكذا، خلت الساحة الداخلية تماما لصلاح الدين، ولكن التوتر الذي شاب علاقته بنور الدين محمود أخذ يظهر على السطح، وكان ذلك جزءا من المتاعب السياسية التي تعين عليه أن يتعامل معها بحذر، وعلى جبهة المواجهة مع الصليبيين كان الملك "عموري الأول" ما يزال أسير سراب يجذبه نحو مصر؛ ولكنه في هذه المرة لم يسلك طريق الحرب وإنما سعى في طريق المؤامرة، فقد تآمر مع "عمارة اليمني" وبقايا القوى الموالية للفاطميين في القاهرة ضد صلاح الدين؛ وباءت المؤامرة بالفشل، وتم صلب عمارة اليمني وأعوانه.

وعجز عموري عن الحركة عندما علم بفشل المؤامرة وإعدام شركائه، وهرب الأسطول الذي أرسله النورمان في صقلية من أمام ساحل الإسكندرية بعد أن خسر عددا من رجاله وسفنه(15 ). وازدادت قامة صلاح الدين السياسية طولا...

وجاءت وفاة نور الدين محمود يوم 11 شوال سنة 569 هجرية / 15 مايو 1174م حلا قدريا لمشكلة العلاقة الحرجة بين الرجلين؛ ثم مات الملك الصليبي "عمورى الأول" بعد شهرين من وفاة نور الدين محمود لتزيح من المسرح السياسي والعسكري عدوًّا مزعجًا.

وكان وريث "عموري" في حكم مملكة بيت المقدس الصليبية صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره ومريضا بالجذام، وعلى الجانب الآخر، كان الصالح إسماعيل وريث نور الدين محمود طفلا أيضا، ولم يكن ممكنا أن تكون هناك ظروف سياسية مواتية أكثر من ذلك لكي يتقدم صلاح الدين على الطريق لتحقيق هدفه.

وفضلا عن التدهور السياسي والمنازعات الناشبة داخل الكيان الصليبي، لم تكن هناك قوة معاصرة يمكن للصليبيين أن يتحالفوا معها في مواجهة الجبهة التي كان صلاح الدين قد نجح في بنائها حتى ذلك الحين؛ ولم تكن أوروبا قادرة على إرسال المساعدات اللازمة للفرنج الصليبيين.

كان على صلاح الدين أن يبرهن أنه رجل تلك المرحلة، وأن يستغل الرياح السياسية المواتية لقيادة سفينة الجهاد ضد الاستيطان الصليبي، وكان أهم أهدافه في تلك المرحلة إعادة بناء ما تصدع من دولة الوحدة التي بناها نور الدين محمود.

وبينما كان الأمراء الذين تخاطفوا هذه الدولة ما يزالون غارقين في منازعاتهم الصغيرة ومنافساتهم للفوز بالوصاية على الأمير الصغير الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود(16)، كان صلاح الدين يتصرف بذكاء سياسي باهر؛ ففي سنة 570 هجرية / 1174م، جاءته في حماة (التي كان قد ضمها إلى دولته منذ فترة وجيزة) رسل الخليفة العباسي بالتشريف والأعلام السود (شعار العباسيين)، وتوقيع من الخليفة بسلطنة مصر وبلاد الشام... وغيرها(17 ).

التحرير والبناء

وكانت تلك مناورة سياسية بارعة جعلت من صلاح الدين الحاكم الشرعي، وأظهرت الآخرين في صورة الغاصبين الخارجين على الشرعية، ومنذ ذلك التاريخ أخذ صلاح الدين يسعى لتحقيق المرحلة الأولى من خطته لتحرير القدس، بناء الوحدة السياسية والعسكرية، واستعاد دمشق، وحمص، وحماة على التوالي؛ ثم سار إلى حلب التي طلب حاكمها المساعدة من "ريمون السانجيلي الثالث" حاكم طرابلس الذي جاء بجيشه، ولكنه لم يلبث أن تراجع عندما اقتربت القوات الإسلامية بقيادة صلاح الدين(18 )، وفي العام التالي 571 هجرية /1176م، عاد صلاح الدين ليفرض الحصار على حلب دونما نتيجة.

وعلى الجانب الصليبي كانت الأحوال في تدهور مستمر؛ ولم يكن ثمة أمل في أن يغالب الصليبيون مشكلاتهم الداخلية الناجمة عن وجود ملك مريض على عرش المملكة تحت وصاية "ريمون الثالث السانجبلي" كونت طرابلس الذي لم يكن يحظى بموافقة جميع الأمراء الفرنج الصليبيين. ومن ناحية أخرى، كانت المشكلات الداخلية في أوروبا تحول دون الالتفات إلى مشكلات المستوطنين الصليبيين في الشرق العربي.

أما الإمبراطور البيزنطي "مانويل كومنينوس" فقد قلم الأتراك السلاجقة أظافره ووضعوه في موقف صعب بعد أن ألحق به السلطان السلجوقي "ألب أرسلان الثاني" هزيمة كارثية في معركة مريوسيفالون Myriocephalon في سنة 1176م، حيث قضى على الجيش البيزنطي الذي كانت أسرة "كومنينوس" قد بنته على مدى عدة أجيال(19 ).

ولما كان جهاز المخابرات الذي بناه صلاح الدين قويا وممتازا، فقد عرف بسرعة أن التحالف البيزنطي الصليبي قد انهار؛ وانتهز الفرصة لشن هجوم على الصليبيين في منطقة الساحل الفلسطيني في جمادى الأولى سنة 573 هجرية / 1177م؛ وكانت تلك المرة الوحيدة التي أفرط فيها صلاح الدين في ثقته بنفسه، وسمح لقواته أن تتحلل من النظام الصارم الذي وضعه لها: فقد لقي جيشه هزيمة ثقيلة، ولكنها لم تغير من توازن القوى في المنطقة(20 ).

وأمضى صلاح الدين السنوات التالية في مناوشات ومعارك عسكرية خفيفة ضد الصليبيين، وضد الأمراء الزنكيين المنافسين في بلاد الشام وفى العراق على السواء؛ فقد كان يسير في مسارين متوازيين في الوقت نفسه: توحيد الجبهة العربية من جهة والاستعداد للحرب الفاصلة ضد الفرنج وتحرير القدس من جهة أخرى.

وفي سنة 578 هجرية / 1182م ، خرج صلاح الدين بجيشه قاصدا بلاد الشام، ولم يعد إلى مصر ثانية؛ فقد كانت السنوات التالية حاسمة في الاستعداد للمعركة الفاصلة ضد الصليبيين. وبقي السلطان طوال السنوات الباقية من عمره محاربا في فلسطين وبلاد الشام ضد الفرنج وضد الأمراء الزنكيين على السواء.

على الجانب الصليبي، كانت الأحوال تسير من سيئ إلى الأسوأ؛ إذ استعرت بينهم حمى الخصومات، وعجز ملكهم المجذوم عن فعل شيء، كما أن حليفهم القوى مانويل كومنين مات في سبتمبر 1180م، كما تدهورت الإمبراطورية البيزنطية بحيث لم تعد قوة يحسب لها أحد حسابا في شرق المتوسط(21 ).

الحرب النفسية

وعرف صلاح الدين كيف يستفيد من هذه الظروف للسير صوب هدفه، وقد استخدم ضد أعدائه من الفرنج ذلك المزيج المدهش من الدبلوماسية والدعاية والحرب النفسية واستعراض القوة الذي كان نور الدين يستخدمه، ولم يتردد في استخدام الأسلوب نفسه ضد منافسيه من الأمراء الزنكيين.

فعقد مع الفرنج هدنة سنة 1180م؛ ولكن ضعف الملك المريض "بلدوين الرابع" أغرى "رينالد دى شاتيون"، أمير الكرك المشاغب، الذي لم يفهم سياسة لا تتماشى مع نزواته العدوانية(22 ). وجاءت سنة 578 هجرية / 1182م، سنة حاسمة في قصة المواجهة الإسلامية / الصليبية.

ففي تلك الأثناء كانت دولة صلاح الدين تشمل مصر ومعظم الشام والعراق باستثناء حلب والموصل، وبقي ضم هاتين الإمارتين هدفا أمام عيني صلاح الدين لاستكمال بناء الجبهة المتحدة قبل الهجوم الحاسم على الصليبيين؛ بيد أن محاولاته للاستيلاء على حلب بالقوة لم تسفر عن شيء(23 ).

وفي الوقت نفسه، قام "رينالد دي شاتيون" (أرناط) بشن هجوم على ميناء أيلة في خريف تلك السنة، ثم أحرق عدة مراكب للتجار في البحر الأحمر، واقتربت قواته كثيرا من المدينة المنورة، وقام الأسطول المصري بمطاردة السفن الصليبية وأسرها بمن فيها؛ ثم طارد الجنود المسلمون عددًا من الفرنج الذين كانوا قد نزلوا على أرض الحجاز، وقبضوا عليهم، وساق الأمير "حسام الدين لؤلؤ"، قائد الأسطول المصري، اثنين من الفرنج إلى "منى"، وهناك "... نحرهما كما ُتنحر البدن..."، وعاد ببقية الأسرى إلى القاهرة، حيث أعدمهم جميعا(24 ).

حفزت هذه الحادثة التي أثارت ثائرة المسلمين في كل مكان السلطان صلاح الدين الأيوبي على المضي قدما في محاولاته السياسية والعسكرية لتوحيد قوى المسلمين، وهنا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن وعي صلاح الدين بالخطر الذي كان الفرنج يمثلونه من جهة، ومخاطر انقسام المنطقة العربية من جهة أخرى، كان قد نضج من خلال خبراته الأولى عندما كان ضابطا في جيش "أسد الدين شيركوه"(25 ).

ويرى الأستاذ "ديفيد جاكسون" أن السلطان كان يتمتع بقدر كبير من الفطنة السياسية، والبراعة في إدارة شئون الدولة، وكان يذهب إلى أبعد مدى في إعداد الأرضية السياسية والدبلوماسية قبل القيام بأي عمل عسكري(26 ).

على أية حال، جاءت سنة 579 هجرية /1184م لتشهد استسلام حلب لصلاح الدين بمقتضى اتفاقية صلح، وازدادت قوة السلطان رسوخا بالشكل الذي جعل مؤرخا في وزن "ستيفن رنسيمان" يقرر أنه على مدى القرنين السابقين لم يشهد تاريخ المنطقة العربية حاكما في قوة صلاح الدين الأيوبي(27 ).

ففي هذه السنة زحف بجيشه من دمشق قاصدا حصن الكرك مقر عدوه الكريه "أرناط"، وحاصر الحصن فترة من الزمن دون أن يحقق مأربه(28 )، ويغلب على الظن أن صلاح الدين كان يريد بهذه المناوشات العسكرية استعراض قوته لأغراض سياسية ودعائية في إطار الحرب النفسية التي كان يشنها ضد الفرنج.

إذ إنه لم يكن ليقدم على شن الحرب الشاملة ما دامت إمارة الموصل القوية تشكل تهديدا له، كما كان يدرك أن وحدة القوى السياسية والعسكرية في المنطقة العربية أمر ضروري، وشرط جوهري، لضمان النصر في حال نشوب الحرب الشاملة ضد الفرنج الصليبيين، ومن ناحية أخرى، كان يعرف تماما، بفضل مخابراته الممتازة، مدى الضعف الذي حاق بالكيان الصليبي؛ ومن ثم، كان في مناوشاته العسكرية ضد الصليبيين يحاول أن يزيد من ضعفهم وأن ينهك قواهم العسكرية والسياسية؛ حتى إذا ما جاءت اللحظة المناسبة تكون قدرتهم على المقاومة قد انهارت؛ ومن ناحية أخرى، كان يضع نصب عينيه هدف تحقيق الوحدة السياسية والعسكرية، أو العمل السياسي والعسكري المشترك على الأقل، قبل هذه المواجهة الشاملة.

في حصار الكرك

وعاد صلاح الدين إلى الهجوم على حصن الكرك الذي كان صاحبه المزعج "أرناط" من أكثر الصليبيين استفزازا وإجراما، كما كان يشكل تهديدا خطيرا على طريق القوافل بين مصر والشام؛ فضلا عن أنه لم يكن يحترم المعاهدات والاتفاقيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق