الأربعاء، 29 أبريل 2009

سوء إدارة لا سوء حظ

سوء إدارة لا سوء حظ
الشرقية أون لاين - 28/04/2009
فهمى هويدى

في أسبوع واحد احتلت مصر المركز الأول في الإصابة بإنفلونزا الطيور وخرجت تماما من تصنيف أفضل خمسمائة جامعة في العالم، ليس ذلك سوء حظ بطبيعة الحال، ولكنه سوء إدارة وترتيب.
لن نفصل في مسألة الإصابة بإنفلونزا الطيور التي أفاضت الصحف المصرية في الحديث عنها طيلة الأيام الماضية، لكن ما يحتاج إلى بعض التفصيل هو الشق الخاص بالفشل الأكاديمي الذريع الذي شهد به تصنيف الجامعات الأفضل في العالم، وهو ما صدمنا به زميلنا الأستاذ لبيب السباعي حين نعى إلينا الخبر في الأهرام «عدد 4/27»، وأرفقه ببعض البيانات التي تملؤنا شعورا بالحسرة والغضب.
قال زميلنا في تقريره المفجع إنه قبل ثلاث سنوات جاءت جامعة القاهرة في مركز متأخر في الترتيب العالمي للجامعات، لكن الموقف أصبح أسوأ الآن. حيث غابت الجامعات ومراكز البحوث العلمية المصرية والعربية جميعها من التصنيف، في حين انضمت إلى قائمة الجامعات الأفضل ست جامعات ومراكز بحثية إسرائيلية (كانت ثلاثا في التصنيف السابق) وثلاث جامعات من جنوب أفريقيا.كنت قد كتبت قبل أيام عن بعض مظاهر تخريب التعليم في مصر، وجاء التقرير الدولي الذي نحن بصدده لكي يعلن إحدى النتائج التي حققها ذلك التخريب. وقد عبرت فيما أشرت وقتذاك عن الدهشة إزاء سكوت المسؤولين عما يحدث في ذلك القطاع، الذي هو في تماس مباشر مع الأمن القومي للبلد، باعتبار أن ضحايا آثاره المدمرة هم الأجيال الجديدة، ها نحن نجد أن المأساة ذاتها تتكرر مع التعليم الجامعي، إذ حين أعلن قبل ثلاث سنوات أن جامعة واحدة في مصر هي جامعة القاهرة قد أصبحت في مركز متأخر ضمن الجامعات المحترمة، وهي التي ظلت منارة للمعرفة في العالم العربي على الأقل، فإن ذلك الفقر العلمي لم يحرك شيئا في بر مصر. بالتالي ظل مؤشر التدهور يستمر في الهبوط حتى خرج التعليم الجامعي تماما من المنافسة، في الوقت الذي وجدنا فيه أن الآخرين لا يتوقفون عن الصعود ويصرون عليه.لا أعرف صدى الصدمة الأخيرة، لكنني أتصور أن أي إدارة رشيدة تتحلى بالوعي والمسؤولية لابد أن تتحرك بسرعة للإجابة عن سؤالين هما: لماذا تراجعت أوضاع الجامعات ومراكز الأبحاث؟ ومن بالضبط المسؤول عن ذلك التراجع؟ وكيف يمكن إنقاذ الموقف والنهوض بالجامعات ومراكز البحث العلمي؟.
حين نجح الاتحاد السوفييتي في إرسال رائد فضاء إلى القمر محققا بذلك سبقا علميا كبيرا على الولايات المتحدة، فإن الدنيا قامت ولم تقعد في واشنطن، وأصدر وزير التعليم هناك في عام 1961 قرارا بتشكيل لجنة ضمت 18 شخصا من أكبر العقول الأميركية لتقييم حالة التعليم في البلد، وإصدار التوصيات التي تمكن أميركا من اللحاق بالاتحاد السوفييتي ومنافسته. وأصدرت اللجنة بعد سنتين من العمل الجاد تقريرا ذاع صيته آنذاك، تضمن توصيات متعددة للنهوض بالتعليم، كان عنوانه «أمة في خطر». وهذا الذي حدث للجامعات المصرية يستحق استنفارا مماثلا من جانب الغيورين على التعليم والمستقبل والأمن القومي للبلد. ولكن يبدو أن ثمة مشكلة في العثور على هذا الصنف من الناس، أو أنهم موجودون فعلا ولكنهم مشغولون بأمور أخرى.هذه البلادة التي نتعامل بها مع ملف التعليم ليست حكرا عليه فقط، لأننا نرى تجسيدا لها في التعامل مع إنفلونزا الطيور، التي كانت شبحا يلوح في الأفق منذ سنتين، وتحولت مع اللامبالاة والتراخي المشهودين إلى خطر داهم يهدد البلاد والعباد. وهو ما يعني أن المشكلة أكبر من الجامعات أو من إنفلونزا الطيور، وأنها تكمن في أسلوب إدارة المجتمع وترتيب أولويات مشكلاته، التي أصبح الأمن السياسي على رأسها، وكل ما عداه أقل أهمية أو عديم الأهمية.

الثلاثاء، 28 أبريل 2009

كيف انهار الأداء المصرى؟

كيف انهار الأداء المصرى؟









الشرقية أون لاين - 01/05/2009

د. عمرو الشوبكى


لم تعد مشكلة مصر الأساسية فى توجهاتها السياسية، ولا فى كونها دولة حليفة لأمريكا لها علاقات مع إسرائيل، ولا لكونها تطبق نظاماً سياسياً يفترض أنه رأسمالى، إنما لأنها تطبق توجهاتها بصورة متخبطة، وبلا روح ولا طموح ولا حتى كفاءة فى الأداء.

والمؤكد أنه لم تظهر أزمة داخلية أو خارجية إلا وانكشف فيها الأداء المصرى واقترب من الفضيحة، فتعامل مع خصومه بالردح والشتائم، وحتى حلفاؤه لم يمنع الأمر من شتمهم حين انتقدوا ممارساته غير الديمقراطية، إما إهانتهم للمصريين أو الاستعلاء على ثقافتهم أو انتهاك سيادتهم، فكلها أمور بسيطة يمكن التغاضى عنها لأنها جاءت من دول كبرى اعتادت أن تشيد فى العلن بحكمة الرئيس، فلا بأس أن تفعل كل شىء وتستبيح كل قيمة.

والحقيقة أنه منذ العدوان الإسرائيلى على غزة، ثم طريقة تعامل الحكومة مع خلية حزب الله الفاشلة، وهناك دلائل واضحة على أن النظام السياسى المصرى فى أزمة باتت تحيط به من كل جانب، وضعت معها البلاد فى حالة حرجة من الصعب استمرارها.

لقد أضاعت مصر فرصة تاريخية امتدت لما يقرب من ٣٠ عاماً، حين فشلت من الاستفادة سياسياً واقتصادياً من توقف حروبها مع إسرائيل منذ عام ١٩٧٣، ودخولها إلى معسكر الاعتدال والتسوية السلمية والتحالف مع أمريكا، وفى الوقت نفسه (وهذه هى المفارقة الكبرى) عزلت الشعب المصرى تماماً عن التفاعل مع أى معانٍ إيجابية يحملها الانفتاح على العالم الخارجى وثقافة الصراع السلمى والديمقراطى، فلم تحمل ما عرف بسياسة الانفتاح الاقتصادى أى قيم ديمقراطية فى الداخل،

ولا رؤى عقلانية فى التعامل مع الخارج، فبالقدر الذى تقبلت فيه النخبة الحاكمة إملاءات الخارج، غاص المجتمع المصرى فى غيبوبة سياسية وثقافية حقيقية جعلته فى عجز كامل عن التأثير فى المسار الإنسانى والعالمى، واكتفى بصراخه فى الداخل دون أن يكتشف بعد أنه مجرد مستمع لصدى صوته.

والمفارقة أنه فى الفترات التى كانت فيها النخبة السياسية فى صراع مع الغرب (فى ظل مشروع حزب الوفد قبل الثورة، ومشروع عبدالناصر بعد الثورة) كان المجتمع المصرى أكثر حداثة وديمقراطية وعقلانية من الوضع الحالى، لأنه لكى تواجه التحديات والضغوط الخارجية ولو بالطرق السلمية، فأنت بحاجة إلى مجتمع صحى وإلى نخبة تبنى فى الإدارة والصناعة والتعليم والصحة حتى لو تعثرت فى مجال الديمقراطية، كما حدث فى الستينيات.

أما عبقرية «حكم محلك سر»، فسنجد أن فشله الأساسى ليس فى كونه قد بنى نظاماً شمولياً غير ديمقراطى، ولا لكونه اختار التسوية السلمية والتحالف مع أمريكا، إنما فى قدرته الاستثنائية على إجراء عملية تخريب وتجريف كاملة للمجتمع المصرى ولمؤسسات الدولة، بصورة جعلته بهذا الشكل التائه والمتخبط و«المستأسد» على كل من يظنه أضعف منه، و «المتأرنب» (من الأرانب) حين يواجه من هو أقوى منه، أى أمريكا وإسرائيل فى الخارج، وكبار رجال الأعمال فى الداخل.

إن انهيار أداء الدولة جاء رغم أن الحكم لم يختر التحالف مع الاتحاد السوفيتى السابق أو الدول الاشتراكية التى عرفت نظماً بيروقراطية محدودة الكفاءة والخيال، ولكنه اختار أن يتحالف مع الغرب وأمريكا، ويستمع إلى نصائح البنك الدولى، ويسجل رئيس الجمهورية رقما قياسيا فى السفر إلى خارج البلاد، خاصة إلى أوروبا وأمريكا،

ومع ذلك لم تعرف مصر انهياراً مثل هذا فى أداء مؤسساتها العامة، وتدنياً فى كفاءة نخبتها الرسمية، خاصة رجالها الجدد من «الهتيفة» و«الرديحة»، الذين صاروا خير معبرين عن حجم التدهور الذى أصاب الحكم الحالى.

والسؤال: ما الذى جعل أداء مؤسسات الدولة يصل إلى هذا المستوى من التدهور، ما الذى جعل الخدمات العامة التى تقدم للمواطنين تنهار بهذا الشكل، وما الذى جعل الحكم يفشل فى أن يستثمر وضعاً سياسياً سلمياً محيطاً (على الأرجح لن يتكرر) لصالح التنمية والديمقراطية؟

الحقيقة أن وجود نخبة تحكم البلاد بالمصادفة، غابت عنها أى رؤية سياسية أدى إلى دفع الشعب المصرى لكى يعيش فى مأساة حقيقية تطحنه بصورة يومية وهى مرتاحة البال، هادئة الضمير، لأن هذا التدمير هو بمفرده الذى سمح لها بالبقاء ما يقرب من ثلاثين عاماً.

والحقيقة حين يكون الحكم بلا مشروع ولا حتى حس سياسى، فإنه يضطر إلى أن يحكم بالسلطة الأمنية، وقد يتساءل البعض: ألم تكن هذه السلطة موجودة فى العهدين الناصرى والساداتى، فما الجديد إذن؟ الجديد أن السلطة الأمنية فى عهد عبدالناصر كانت تتحرك فى ظل نظام لديه مشروع سياسى، وبالتالى كان دورها، كما كان الحال فى عصر السادات، هو مواجهة الخصوم السياسيين فقط، وليس عموم الناس كما يجرى الآن.

فلم يشعر المواطن العادى بوطأة الأجهزة الأمنية ولا بقهر مؤسسات الدولة التى ضمت أسماء مهنية وكفاءات إدارية، بل حتى أمنية رفيعة المستوى وشديدة الإخلاص، ولكن حين يكون الحكم خائبا وفاشلا يقوم، ليس فقط، بالاعتماد الكامل على الأجهزة الأمنية، فإنه يبدأ فى «هندسة» المجتمع ومؤسسات الدولة على مستوى الجهاز الوحيد الذى يعمل،

أى الجهاز الأمنى، فيظهر «الصحفيون» المخبرون بدلا من الصحفيين الموالين للسلطة، وينتشر عمداء الكليات ورؤساء الجامعات الذين يختارهم الأمن محل جيل من العلماء الحقيقيين كانوا موالين للنظام حين كان موجودا، ويغيب رجال الدولة المحترمون لصالح مجموعات مسخ، اختارتهم أجهزة فاشلة وتقارير أفشل.

من الصعب أن نجد فى أى عصر فى تاريخ مصر المعاصر مستوى من التجهيل والخرافة أصاب المجتمع المصرى مثلما حدث فى هذا العهد حليف الغرب وأمريكا، فحين تغيب عن الحكم الرؤية والطموح السياسى، يصبح الأمن هو الحاكم لكل مفاصل المجتمع، وتصبح كراهية الجدية والقدرة على الفعل والتأثير سمة رئيسية من سمات هذا العهد، فإذا كنت مسؤولا أو مثقفا محترما ويشيد بك الناس، فتأكد أنك من المغضوب عليهم لأن هذا وضع غير مريح أمنيا، وإذا كنت عالما كبيراً، ردد الناس اسمك بالخير، فتأكد أنك فى «القائمة السوداء». نعم..

لقد كان مفهوما فى بلد غير ديمقراطى أن يواجه النظام خصومه السياسيين، ولكن لم يكن مفهوما أن يجعل كل رجاله بهذا المستوى الصارخ من التدنى الأخلاقى والفشل المهنى والسياسى، أمر عجيب أن تعيش فى بلد لا يحارب عسكرياً ويختار أن يفشل ( بضم الياء) تعليمه وجامعاته ويقضى على علمائه ويخرب عقول شعبه بإعلام هابط.

إن انهيار مؤسسات الدولة وتوظيفها فى معارك هابطة وحملات دعائية مسفة ومعارك صغيرة، هو نتيجة لغياب «الحكم السياسى» الذى تبلد فى مكانه، ولكى يستمر حتى النهاية على قيد الحياة كان لابد أن «ينفق» من ورثه الوحيد، أى «الدولة المصرية»، ولأنه لم يضف شيئا إلى هذا «الورث» (ديمقراطية أو تنمية لا سمح الله) فقد أفلس،

وانطلق نحو بيع وتصفية ما ورثه، فخرّب الدولة وطوّعها عند مستوى قدراته المحدودة، واجتهد من أجل استئصال كل مواطن، حمل جانباً من تقاليدها، وأطلق قادتها الجدد على الشعب المصرى ليتحدى بهم العالم فى الفساد والجهل والخيبة الثقيلة.. ولكن ألا يوجد داخل هذه الدولة جيل ثان مهمش ومقهور ويحلم بالتغيير؟


المصدر: صحف