الأحد، 1 نوفمبر 2009

حول قضية فلسطين (2)
مع مشروع الإخوان بشأن قضية فلسطين
د. محمد عبد الرحمن
لم يتناول الإمام الشهيد مشروعه الإستراتيجي بشأن القضية الفلسطينية كمشروعٍ منفصل، وإنما جعله ضمن المشروع الإسلامي المتكامل الذي يعمل له، وأعطى فيه للقضية وضعها المناسب وثقلها المهم.
وقد وضع له أهدافًا واضحةً ومساراتٍ محددة، كذلك كانت قراءته للواقع دقيقة ومبكرة، وإجراءاته لمواجهة هذا الواقع عملية ومكافئة، واستشرافه للمستقبل وقراءة ما يحمله غير غائبة.
وكان- رحمه الله- يُدرك مراحل القضية وتطوراتها المستقبلية وحجم التضحيات المطلوبة، وكيف تواجه الجماعة ذلك، كان يدرك بوضوح أن الجماعة كلها مستهدفة، وأن رأسه على الأخص مستهدف؛ كمحاولةٍ من قِبل القوى المعادية لإيقاف الجماعة، وإبعادها عن القضية، وقد نال- رحمه الله- الشهادة في سبيل ذلك.
وفي السطور القادمة نحاول أن نلقي نظرةً إجماليةً موجزةً، فيها بعض التحليل والدراسة عن دور الإخوان الذي سبق أن أشرنا إليه بإيجاز.
الأسس التي تقوم عليها الرؤية الإستراتيجية للمشروع الإسلامي:
- حدَّد الإمام الشهيد أسس ومنطلقات دائمة ومستمرة، يقوم عليها المشروع الإسلامي في التعامل مع القضية الفلسطينية، نشير بإيجاز إليها:
1- وضع القضية الفلسطينية في وضعها الصحيح ضمن المشروع الإسلامي المتكامل الذي تحمله، وتعمل له الجماعة؛ فهي قضية محورية ومعركة الإسلام الأولى في ذلك العصر.. وهي في نفس الوقت ضمن المحاور الأساسية لهذا المشروع، والذي يجب أن يسير متوازيًا في جميع محاوره.
2- أن العمل على هذه القضية طوال مسيرة الجماعة؛ سيحتاج إلى تضحيات كثيرة، يجب أن تعد الجماعة نفسها لها، ولا تُوزن هذه التضحيات بحجم الفائدة منها، وإنما بأهمية الحدث والموقف ومسئولية الجماعة في المواجهة.
3- أن تحرص الجماعة على استمرار مشروعها في المواجهة مهما قلَّت الإمكانيات، وألا تُستدرج من قِبل الأعداء؛ فيتمكنوا من إنهاء حركتها أو إشغالها بعيدًا عن أصل القضية.
4- الحرص على الثوابت والمبادئ في هذه القضية، والثبات عليها مهما كانت الضغوط، ومهما ضعفت الإمكانيات.
5- أن المعركة طويلة جدًّا، وستشمل أجيالاً عدة، وأن الأمر يحتاج إلى النفس الطويل وإلى خطوات متدرجة.
6- أهمية بقاء روح المقاومة والجهاد مشتعلة في النفوس؛ حتى وإن سُجن أفراد الجماعة أو مُنعوا من التحرك العملي للتعبير عن ذلك.
7- أهمية إيقاظ الأمة وإشراكها وحشدها في هذه القضية، والتركيز على المنطلق الإسلامي، ومساندتها لهذا المشروع (مشروع المقاومة والجهاد لهذا العدو المغتصب).
8- أهمية وضوح الثوابت الإسلامية في هذا الأمر؛ مهما علا صخب المشروعات الأخرى، وما تحمله من شعارات براقة تبتعد بها عن هذا الأصل، وتلك الرؤية الإسلامية.
9- إخراج القضية عن مجرد حصرها في الفلسطينيين والأمة تساعدهم، إلى الرؤية الإسلامية بأنها قضية كل مسلم؛ فهي قضية الأمة الإسلامية جمعاء، لا يملك أحد أن يُفرِّط فيها حتى ولو تخلَّى عن هذه الثوابت أهلها.
10- أن تكون الرؤية الإستراتيجية في المشروع الإسلامي هي الحاكمة والموجهة لأي عمل أو تكتيك أو سياسة متبعة.
11- عدم الانخداع بالمؤسسات الدولية، والتلويح بسياسة المفاوضات والحلول الجزئية، أو القبول بأن ذلك هو البديل المتاح.
12- اليقين والأمل في نصر الله؛ مهما أحرز الأعداء من نجاح أو طال الزمن.
منهجية الإمام الشهيد وما تميَّز به:
تميَّز الإمام الشهيد بمنهجية واضحة محددة؛ سواء في تعامله مع الآخرين، أو في تعامله مع الأحداث والمواقف، أو في تناوله للأمور بصفةٍ كلية.
فنرى في تعامله مع الآخرين الحرص على التواصل مع كل القوى السياسية والوطنية والمؤسسات والحكومات العربية... إلخ.
وإيجاد مساحة مشتركة للتعاون مع توضيح أبعاد هذه القضية لهم ومساحة الخطر التي تشمل الجميع، وكذلك استخدام وسائل النضال السلمي والشعبي لدفع الحكومات إلى اتخاذ مواقف إيجابية وتقوية ظهرها أمام الضغوط الأجنبية، مع الحرص على احترام القانون والدستور، وعدم الوصول إلى حالة الفوضى أو الصراع.
الحرص على دعوة الإخوة المسيحيين، وإشراكهم كأبناء وطن واحد في هذه القضية المهمة، وكان الإمام الشهيد في أكثر من بيان يوجه نداءه "إلى الإخوة المسيحيين الأعزاء.."، وقد شاركوا الإخوان في المؤتمرات والمظاهرات، وألقوا الكلمات.
ومن المميزات التي ظهرت في أسلوب تعامل الإمام الشهيد مع الموقف نذكر:
1- الإدراك العميق لأبعاد هذه القضية:
أ- كان هذا الإدراك مبكرًا ومستوعبًا لمدى خطورة هذا المشروع الصهيوني وأهدافه، ولم يتعامل مع الاحتلال الإنجليزي لفلسطين كمجرد استعمار لبلد إسلامي.
ب- الإدراك العميق لمَن يقف وراء هذا المشروع ويسانده بقوة من اليهودية العالمية والقوى الكبرى.
جـ- الإدراك العميق لواقع الأمة الإسلامية حكامًا ومحكومين.
د- الإدراك العميق لطول المواجهة واتساعها واستمرارها أجيالاً متتابعة.
2- القدرة على تحويل الرؤية الإستراتيجية إلى منهجية وإجراءات عملية في الواقع:
أ- بناء جيل رباني قوي، يفهم القضية بعمق ويحافظ على ثوابتها، ويجعلها في أهدافه الرئيسية، ويعمل لها في كل الظروف والأحوال، ويتواصل في ذلك جيلاً بعد جيل.
ب- التركيز على الشعوب العربية والإسلامية بكل طوائفها، وإيقاظها وتوعيتها وإشراكها في العمل لهذه القضية، وعدم الاعتماد على الحكام في ذلك، وإنما محاولة التأثير عليهم لتحقيق بعض الاستفادات.
جـ- إرساء معالم المقاومة بكل أبعادها، وتأكيد استمرارها رغم كل الظروف؛ حتى وإن ضعفت الإمكانيات.
د- القدرة على التصدي لكل محاولات الخديعة، أو المساومة، أو الاستدراج للانحراف عن الأهداف، أو الثوابت والمنطلقات الإسلامية لهذه القضية؛ مهما كان الإغراء أو اشتد الضغط والإيذاء.
3- إتباع سياسة شاملة في الحركة والمواجهة:
أ- جعل القضية محورًا أساسيًّا ضمن مشروع إسلامي متكامل.
ب- الاهتمام بالبناء الفكري والرؤية الإسلامية؛ لتأكيد الوعي وتحصين الأمة.
جـ- عدم اقتصار المقاومة على مجال أو شكل واحد، وإنما بكل أبعادها وجوانبها.
د- الحرص على شمول ذلك للأمة الإسلامية وشعوبها وأجيالها.
هـ- الاهتمام بالبنية التحتية للمقاومة.
و- الاهتمام بالأمل، وترسيخه لدى الأمة؛ مهما طال زمن المعركة أو تأخَّرت النتائج.
ز- العمل على كل المحاور والأصعدة المحلية والدولية.
رؤية الإمام الشهيد وتطور الأحداث في القضية:
كان للإمام الشهيد رؤيته الثاقبة التي لا تخدعها الشعارات الحماسية أو ضجيج الأحداث، فمع كل المجهودات التي بذلها والمئات من شباب الإخوان الذين زحفوا إلى فلسطين، رغم كل المعوقات التي واجهتهم، إلا أنه أدرك أن هؤلاء الصهاينة اليهود سيتمكنون من الاستيلاء على فلسطين في تلك المرحلة، بل أدرك ذلك مبكرًا، عندما عاد رسله من فلسطين بتقرير يؤكد أن الدولة اليهودية قائمة لا ينقصها إلا الإعلان عنها.
لكن بفضل الله نجح في وضع الأمة الإسلامية على الطريق الصحيح للمقاومة، ورسَّخ فيها الرؤية السليمة للمواجهة، وأعدَّ جماعته ومشروعه الإسلامي لمعركةٍ طويلةٍ، تمتد أجيالاً لتحسم فيها تلك القضية المهمة وتُبطل المشروع الصهيوني.
يقول رحمه في عام 1948م عندما كانت تأتيه أنباء المعارك، ومَن استشهد فيها:
"إن "إسرائيل" ستقوم؛ لأن حركتها حركة عقيدة، إن الطريق طويل.. طويل رهيب وهذا الدم العزيز المسفوح (أي يقصد دماء الشهداء) لا يعوض، والمعركة الكبرى معركة الإسلام التي ربينا لها هذا الشباب لا تزال أمامه، أما "إسرائيل" ستقوم وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل غيرها؛ وذلك طريقنا الذي لا يجوز أن تفتنا عنه وجوه المعارك والبطولات، إننا أصحاب رسالة ترفض الأمل الكاذب في سياسة لا يحكمها الإسلام، وفي كل جهاد لا تحكمه كلمة الله، وإن على شعوبنا أن تميز بين ذوي العقيدة المجاهدين وبين عبث المتحللين من ساسة وعسكريين، وإننا إنما نحتسب هذا الدم العزيز المسفوح إعذارًا إلى الله.. وتذكيرًا لهذه الأمة إن كانت تنفع الذكرى".
ولقد كان الإمام الشهيد يعلم جيدًا ما سيترتب على ظهور الإخوان بإمكانياتهم داخل المجتمع، وفي ساحة القتال، وقدرتهم على مواجهة اليهود، وكان يدرك حجم الضربة التي ستوجه للدعوة والجماعة وهو على رأسها، ولكن الأمر يمثل مبدأً وعقيدةً لا يجوز التراجع فيها أو السكوت عنها.
* هل تراجع المشروع الإسلامي بعد استشهاد حسن البنا؟
بالنظر إلى حجم الفعاليات التي تحرَّك بها الإخوان في حياة الإمام، وحجمها بعد استشهاده قد يُظن بأن المشروع الإسلامي قد تراجع؛ لكن هذه الرؤية السطحية لا تضع الواقع الخارجي والضغوط التي كانت تمر بها الجماعة في الاعتبار، وكذلك لا يوجد تحت يديه الكثير من الأعمال والأنشطة التي كانت تتم في هدوء، دون إعلان ظاهر لدور الجماعة فيها.
إن المقياس هنا في هذه الظروف لا يكون بحجم الأعمال وقتها، وإنما بمدى التمسك بالثوابت، والعمل وفق المشروع الإسلامي، وإكسابه الروح التي يحتاجها والعزيمة التي يتطلبها والإعداد الجيد المستمر.
فمع تصاعد الأحداث في بداية عام 1949م، وتوجيه ضربة أمنية قوية للإخوان في مصر؛ أرسل الإمام الشهيد للمجاهدين في فلسطين ألا يشغلهم ما يحدث في مصر، وأن مهمتهم هناك لم تنتهِ بعد، ثم تصاعدت الضربات باغتيال الإمام الشهيد والزج بآلاف الإخوان في السجون بل واعتقال المجاهدين، ولم تمضِ مدة قليلة حتى جاءت محنة 1954م عنيفة متصاعدة، تستهدف إقصاء الجماعة، والقضاء عليها تمامًا، مستخدمة القتل والتعذيب والتشريد والسجن الطويل الذي امتدَّ حوالي ربع قرن.
لكنَّ أفراد الإخوان ومجموعاتهم الصغيرة الذين نجوا من محرقة الاعتقالات؛ واصلوا حمل السلاح ومقاومة اليهود بعمليات فدائية في صحراء النقب، وانطلاقًا من غزة، رغم توجيه النظام الناصري أكثر من ضربة لقيادتهم في غزة، فاعتقل الشيخ أحمد ياسين، وكذلك هاني بسيسو الذي تُوفي في السجن، وكانت هذه العمليات تسبب إزعاجًا للعدو الصهيوني، والذي اشتكى من ذلك مرارًا قبل حرب 1967م، وفي منتصف الخمسينيات تعرَّض الإخوان في غزة لاختبار شديد بانفصال مجموعة من شباب الإخوان هناك تحت اسم مشروع "فتح" منهم (خليل الوزير- صلاح خلف- ياسر عرفات.. إلخ).
وعقب حرب 1967م والهزيمة التي حدثت خفت القبضة الحكومية على نشاط الإخوان وحركتهم قليلاً فتحرَّك الإخوان، وأقاموا معسكرات لهم في الأردن تحت اسم "فتح"، مستفيدين من شرعية هذه اللافتة، وعُرفت هذه المعسكرات بمعسكرات الشيوخ، وكانت تتكون من سبع سرايا، وشارك فيها إخوان من مختلف الأقطار.
وكانت لهم عمليات متميزة داخل الأرض المحتلة، وخاضوا معارك مهمة؛ من أهمها معركة "الكرامة"، معركة "المشروع" أو الحزام الأخضر عام 69، معركة 5 يونيو 1970م، وعملية سيد قطب عام 1970م، وبلغ شهداء الحركة الإسلامية في هذه المعارك ثلاثة عشر شهيدًا؛ منهم الأخ صلاح حسن من إخوان السيدة زينب بمصر.
ومع مناخ الانفتاح الذي حدث في عام 1973م ازداد نشاط الإخوان في مصر وفلسطين، وأسس الشيخ أحمد ياسين المجمع الإسلامي عام 1973م في غزة، وفي أوائل الثمانينيات تمَّ تحديد الرؤية العملية لتفعيل المقاومة ضمن مشروع جهادي متكامل متعدد المراحل.
ففي عام 1982م في إحدى الدول العربية تمَّ عقد مؤتمر لرجال الحركة الإسلامية في الضفة وغزة والمهجر، وتم وضع الخطوات اللازمة لذلك وتنشيط استكمال بناء البنية التحتية والقاعدة الشعبية التي تحتاجها، مع تصعيد في العمل الجهادي الذي سبب للعدو داخل فلسطين الكثير من الإزعاج، وفي عام 1984م اعتقلت السلطات الصهيونية الشيخ أحمد ياسين مع مجموعة من القيادات بتهمة المقاومة المسلحة، وحُكم عليه بالسجن 13 عامًا، أمضى منها 11 شهرًا، ثم خرج ضمن صفقة تبادل للأسرى؛ لكنه في أثناء السجن عام 1984م مع قيادات الحركة اتخذت القيادة قرارها بمشروع الانتفاضة والمقاومة الشعبية، وبدأوا في الخطوات والإجراءات التمهيدية.
وفي ديسمبر 1987م إثر حادث جباليا، وتظاهر الفلسطينيون بالمخيم بشأنه، في مساء ذلك اليوم؛ التقت قيادات الحركة بغزة في منزل الشيخ أحمد ياسين، وأصدروا قرار إشعال الانتفاضة، والبدء بالتصادم مع قوات الاحتلال، وتصعيد ذلك وحشد الشعب في هذا الاتجاه، وبعد أسبوع من الفعاليات الناجحة تمَّ إعلان البيان الأول للانتفاضة، وإشهار حركة المقاومة الإسلامية حماس، ثم تطوير الانتفاضة إلى انتفاضة مسلحة، والدخول في المواجهة العسكرية مع العدو الصهيوني، وإرباكه وتكبيده الخسائر؛ رغم التضحيات الضخمة التي استشهد فيها أجيال من قيادات الإخوان هناك.
وفي مصر انطلق الإخوان يعيدون تعبئة الشعب المصري وتوعيته بهذه القضية، والدور المطلوب منه، ومنذ عام 1977م وما بعده؛ وهم يتعرضون للتهديد والإغراء بالسكوت على "كامب ديفيد"، أو "اتفاقية السلام" مقابل عدم التضييق عليهم، لكن رفض الإخوان ذلك، واستمروا في مشروعهم؛ ما عرضهم للاعتقالات والتضييق، واستشهد داخل السجن كمال السنانيري، وغيره من الإخوان.
ورغم استمرار أسلوب التضييق والحصار، وتصاعد الضربات الأمنية لهم، إلا أنهم استمروا في التحرك الواعي لدعم القضية، ومساندتها بكل الوسائل رغم الآلاف الذين تمَّ اعتقالهم وحبسهم أكثر من مرة، ورغم المحاكمات العسكرية المتكررة لقياداتهم.
وأصبح اليوم المشروع الإسلامي الذي يقوده الإخوان هو الذي يواجه العدو الصهيوني ومشروعه التوسعي، وكذلك يواجه المشروع الأمريكي ويعرقل الكثير من فعالياته.
ضغوط ومنزلقات واجهت الإخوان:
لقد واجه الإخوان ضغوطًا ومنزلقات كثيرة ثبتوا أمامها، كانت كفيلة بجعلهم ينصرفون عن مشروعهم أو على الأقل يؤجلونه، ومن ذلك:
1- أول هذه الأمور كجزء من واقع الأمة؛ هو انصراف الشعب والحكومة عن تلك القضية، فكان على الجماعة أن تبذل جهودًا مضاعفةً لتوعية الأمة وإرغام المسئولين على الاستجابة لشعوبها، فانتشروا في المساجد، وجابوا البلاد طولها وعرضها، وأخرجوا المظاهرات، وأقاموا المؤتمرات حتى تحرَّك الشعب واستجابت الحكومة لضغوطه إلى حدٍّ ما.
2- أنه مع معرفة نتيجة المعركة وقدرة العدو على النجاح في الاستيلاء على فلسطين، ووضوح حجم التضحية التي ستقدمها الجماعة، وما يترتب على ذلك من مواجهة إلا أن قرار القيادة بالدخول العسكري المباشر في المعركة؛ كان قرارًا وفق إستراتيجيتها ووفق أهدافها ورؤيتها الإسلامية.
3- عندما تمَّ شن حملة الإبادة والإقصاء للجماعة وأفرادها، خاصةً في مصر وغزة؛ حرصت الجماعة على استمرار رؤيتها الإسلامية، وعلى استمرار روح المقاومة والجهاد وتربية أفرادها عليها، بل والمشاركة العملية؛ حتى ولو كانت فردية أو صغيرة إذا أتيحت لها فرصة في ذلك.. وإن الراصد لهذه المرحلة ليندهش كيف تحرص الجماعة على ذلك، رغم الحرب الضروس عليها، وتغييب أغلب أفرادها وقيادتها داخل السجون ومطاردة الباقين خارجه.
4- طول الوقت الذي كان لازمًا لإرساء البنية التحتية لمشروع المقاومة، والذي يجب أن يستمر رغم الفرقعات الإعلامية من المشاريع الأخرى، والضغوط على الجماعة لاستعجالها أو اتهامها بالتقصير والخوف.
5- عندما تمَّ اختبار مدى تمسكها بإستراتيجيتها وثوابتها الإسلامية في الحركة؛ وذلك عند انشقاق المجموعة التي أسست "فتح".
وقد تقدَّم به مجموعة من شباب الإخوان في 1957م على رأسهم خليل الوزير، وهو يستهدف التركيز على الجانب العسكري للمقاومة، ولا يشترط الأهداف والمنطلقات الإسلامية أو البرنامج التربوي الإسلامي، وعندما رفضت القيادة في غزة تأسست عام 1958 حركة "فتح"، واستثمروا المساحة المشتركة وغموض العلاقة في استنزاف وضم أعداد غير قليلة من الإخوان؛ لكن في عام 1960م تمَّ عقد لقاء بين ممثلي الإخوان الفلسطينيين في غزة وفي المهجر العربي لتحديد العلاقة مع "فتح" والفصل التام بينها وبين الإخوان، وتحديد قيادة مشتركة للإخوة الفلسطينيين داخل وخارج الأرض المحتلة.
وفي عام 1966م تمَّ تمثيل الإخوان الفلسطينيين في المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية.
6- تعرضت الجماعة للمساومة على مشروع المقاومة بمكاسب سياسية، مقابل التنازل عن بعض الثوابت واستخدام الحصار وشتى الضغوط لتحقيق ذلك؛ لكن فشلت كل تلك المحاولات أمام صمودها وثباتها.
7- الزخم الإعلامي الذي حظيت به المشاريع الأخرى التي لا تتبنى الرؤية الإسلامية، وتأثير ذلك على أفراد الصف وعلى القيادة التي كانت تُعطي أولوية للبنية التحتية وتجهيز الأرض لمقاومة فعَّالة مستمرة.
كان الإخوان أيضًا يُحذِّرون من أمرين في طريق تناول القضية على مستوى حكام الأمة العربية:
أ- إخراج أهل فلسطين من معادلة المواجهة والصراع وإهمالهم؛ بحجة تولي الحكومات العربية هذا الملف، وكان هذا في الفترة الأولى.
ب- والطريقة الأخرى وإن كانت عكس ذلك، وهي حصر القضية في أهل فلسطين، وإلغاء البعد العربي الإسلامي وتضييق دوره إلى مجرد مساعدة معنوية، وكان هذا هو السائد حتى عصرنا الحالي، بل تم حصر تمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني في فصيل واحد، تفاهموا معه على كيفية إنهاء القضية وتهدئة الأحوال وتقديم التنازلات.
ظاهرة متلازمة في مسار الأحداث:
في حياة جماعة الإخوان المسلمين السياسية ظاهرة متلازمة، وإن كان ليس لدينا الآن وثائق لكشفها؛ لكن تكرارها يؤدي إلى تأكيدها، وهي:
* التلازم بين التضييق والمحن التي تمر بها الجماعة، مع توسع نشاط الكيان الصهيوني.
* ففي عام 1949م تم توجيه ضربة قوية للجماعة، واغتيال قائدها الإمام الشهيد؛ ليتمكن الكيان الصهيوني من فرض سيطرته على أرض فلسطين.
* وفي عام 1954م دخل الإخوان المسلمون في مصر في محنة شديدة، وتمَّ حل الجماعة وطورد أفرادها، وبعدها في عام 1956م تمَّ احتلال سيناء، وانتزاع قرية أم الرشراش منها (ميناء "إيلات" الآن)، وفتح خليج العقبة أمام الكيان الصهيوني.
* وفي عام 1965م أُعيد نفس السيناريو وبنفس الضراوة، ثم حدثت هزيمة 1967م، وضاعت غزة والضفة والقدس والجولان وباقي سيناء.
* وكذلك في عام 1981م في عقد معاهدة السلام وفرضها على الشعب المصري كانت الاعتقالات للإخوان، وفي عام 1995م سلسة المحاكمات العسكرية في وقتٍ قام العدو بتوسيع حدود مدينة القدس، وأعلنها عاصمة أبدية له.
* وهكذا مع كل جولة وضربة توجه للجماعة؛ نجد نشاطًا متزايدًا للعدو الصهيوني وحملة جديدة ضد الإخوان، تبدأ بنشر الأكاذيب لتضليل الرأي العام ثم الاعتقالات.
* عضو مكتب الإرشاد
حول قضية فلسطين
الإمام البنا والقضية الفلسطينية
بقلم: د. محمد عبد الرحمن
أحسَّ الإمام الشهيد مبكرًا بمقدمات المشروع الصهيوني الذي يستهدف فلسطين ولم يتعامل مع احتلال الإنجليز لفلسطين كأي احتلالٍ لوطن إسلامي، وبدأ يكتب ويُنبِّه لهذا الخطر الشديد منذ عام 1929م، محذرًا من تصاعد الخطر اليهودي في فلسطين، ومشيرًا إلى أن اليهود تنتبه مطامعهم أمام غفلة المسلم.
في مقالٍ آخر كتبه عام 1930م أبدى فيه عدم رضائه عن ردود أفعال المسلمين في مواجهة هذا التحدي؛ لأنها لم تزد عن الاحتجاجات، وأن خطة اليهود تقوم على الاستحواذ عليها بالقوة وطرد أهلها.
وفي وقتٍ كان الكثير في غفلةٍ عما يُدبَّر حتى إن رئيس وزراء مصر عندما سُئل عن الاضطرابات الحادثة في فلسطين أجاب أنه رئيس وزراء لمصر وليس لفلسطين، وفي هذا الوقت المبكر استوعب الإمام الشهيد أبعاد المشروع الصهيوني والمعلومات المرتبطة به، وتواصل ميدانيًّا مع أهلها، وأرسل الرسل هناك لتكون الصورة أمامه كاملةً.
ولم يكتفِ الإمام بذلك، بل بدأ في وضع رؤية إستراتيجية للحركة، والتصدي لهذا الخطر ضمن مشروعٍ متكاملٍ سنتحدث عنه لاحقًا.
حدد الإمام الشهيد الرؤية والمنطلق والثوابت بشأن هذه القضية؛ حيث ينطلق الإخوان المسلمون في تعاملهم مع القضية الفلسطينية من حقيقة أساسية جوهرها: أن أرض فلسطين هي أرض عربية إسلامية، وقف على المسلمين جميعًا حتى تقوم الساعة، يحرم التنازل عن شبر واحد من ثراها مهما كانت الضغوط، فهي بالتالي أمانة في أعناق أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل حتى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومَن عليها.
وأن قضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي بأسره وليست قاصرةً على أهلها الفلسطينيين، وأن المقاومة بكل أبعادها ومحاورها هي الطريق لاسترداد أرض فلسطين؛ فاليهود لا يفهمون إلا لغة القوة.
قبول التحدي والاستعداد للمواجهة:
ومع إدراك الإمام الشهيد لخطورة المشروع الصهيوني والقوى الكبرى التي تقف وراءه والإمكانيات الضخمة المسخرة له، إلا أنه قرر قبول المعركة متوكلاً على الله، كما كان له بفضل الله القدرة على تحويل الرؤية والأهداف إلى خطواتٍ عملية مثمرة وإلى تغيير الواقع وفق مراحل محددة لتعبئة الأمة وحشدها.
ويعلن الإمام الشهيد موقف الإخوان:
"... ولقد كان من حسن حظنا أن نشهد ذلك العصر الذي تقف فيه اليهودية العالمية متحديةً الأمم العربية والإسلامية، معتديةً على مقدساتنا بالحديد والنار، وإننا لنقبل هذا التحدي معتقدين أن الله تبارك وتعالى قد ادَّخر لنا فضل مقاومة هذا العدوان والقضاء عليه".
خطوات الإمام الشهيد وفعالياته:
رغم أن الجماعة كانت في بداية نشأتها وتواجه مناخًا صعبًا من الاحتلال الإنجليزي والقوى السياسية القديمة المتربصة بها، وكذلك كان الشعب في غفلةٍ وفي حالةٍ من الأزمات الاقتصادية، وتشغل الطبقة المثقفة والوسطى منه القضية الوطنية، إلا أن اهتمام الإمام الشهيد وإدراكه لأهمية الوقت وخطورة الإحداث جعلته يسارع بالعمل في هذا الميدان، ويبذل جهدًا كبيرًا في توعية الأمة وإيقاظها لتتبنى هذا الأمر، وتُدرك مدى الخطر.
واستطاع بفضل الله من سنة 1932م وحتى سنة 1942م أن يُحدث تحولاً كبيرًا في الشارع المصري.
ثم يحول هذا التحول إلى وسائل ضغط، وإلى مسارات عملية للدعم والمساندة توجِّت بتفاعل قوي حاشد للأمة في عام 47-1948م تحت توجيه وقيادة الإخوان.
واضطرت القوى السياسية العلمانية أن تجاري الأمر، وتلحق بهذا الزخم الشعبي، واضطرت الحكومات أن تستجيب لبعض المطالب، وأن تزايد ببعض الشعارات.
ونشير في إيجاز إلى بعض هذه الخطوات:
1- التوعية العميقة لأفراد الجماعة، وكذلك توعية الأمة بالقضية وبالأحداث المتتالية بشتى الوسائل والسبل:
أ- انتشار الإخوان في المساجد وفي القرى والنجوع؛ يشرحون للأمة ويوجهونها، وكان لهم دعاء يقنتون به في المساجد، ويردده آلاف الجماهير من ورائهم، ومن كلماته "اللهم غياث المستغيثين وظهير اللاجئين ونصير المستضعفين انصر إخواننا أهل فلسطين.....".
ب- توظيف المناسبات للتذكير بالقضية والتركيز عليها فأصبح يوم 27 من رجب من عام 1933م احتفالات الإخوان بالإسراء والمعراج لخدمة القضية وإحياء ذلك في كل عام.
ج- طباعة الكتب وكتابة المقالات والبيانات وتوزيعها على نطاقٍ واسع، وكمثال فقط "كتاب النار والدمار في فلسطين" عام 1938م، وقد قُبض على الإمام الشهيد بسببه ثم أُفرج عنه.
كتاب "كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب" عام 1946م، ثم توالت الكتب من علماء الإخوان ودعائهم حتى يومنا هذا.
توالت عشرات المقالات في مجلات وصحف الإخوان، وفي كلماتهم للأمة من عام 1933 من هذه العناوين "فلسطين الدامية- فلسطين المجاهدة...إلخ".
من كلمات الإمام الشهيد في هذا الشأن:
"إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هي لغة الثورة والقوة والدم عام 1936".
"أيها المسلمون في أقطار الأرض إن فلسطين هي خط الدفاع الأول والضربة الأولى نصف المعركة، فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدافعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم".
"ليست قضية فلسطين قضة قطر شرقي، ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا".
"احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نحلهم تبرعوا بالأموال للأسرة الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم لا عذر لمعتذرٍ فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان" (عام 1938م مجلة النذير).
"إن الصهيونية ليست حركةً سياسيةً قاصرةً على الوطن القومي لليهود أو الدولة المزعومة بالتقسيم الموهون، ولكنها ثمرة تدابير وجهود اليهودية العالمية التي تهدف إلى تسخير العالم كله لحكم اليهود ومصلحة اليهود وزعامة مسيح صهيون، وليست دولتهم الخيالية التي يعبرون عنها بجملتهم المأثورة من الفرات إلى النيل في عرفهم إلا نقطة ارتكاز تنقضُّ منها اليهودية العالمية على الأمة العربية دولة فدولة ثم على المجموعة الإسلامية أمة بعد أمة" (من بيانه للأمة عام 1947م).
"إنه لن تقوم في أية دولة صناعة ناجحة ولا تجارة رابحة، وستقضي المنافسة الصناعية والتجارية على كل أمل لهذه الأمم العربية والإسلامية في التقدم والنهوض، هذا فضلاً عن الفساد الاجتماعي الذي تحمل جراثيمه هذه الرءوس اليهودية الطريدة من كل دولة".
"إن الدماء التي خضبت أرض فلسطين، وإن آلاف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل المثل الإسلامي الأعلى.. إن المسجد الأقصى الذي انتهكت حرمته.. كل أولئك يهيب بك أيها الأخ المسلم أن تبذل في سبيل الله ما وهبك من روح ومال؛ لتكون جديرًا بالاسم الذي تحمل، وباللواء الذي ترفع، وبالرعيم الذي أنت به مؤمن" (حسن البنا 1939م).
هـ- عشرات الندوات والمؤتمرات والمظاهرات الحاشدة في جميع أنحاء القطر المصري رغم الأحكام العرفية التي فُرضت إبَّان الحرب العالمية، ومنها سلسلة المظاهرات العارمة في 36، وعام 1938م وما بعده، وقد قبض في هذه المظاهرات على أعداد من الإخوان منهم الشهيد يوسف طلعت في الإسماعيلية والحاج عباس السيسي في الإسكندرية.
ومن أهم هذه المظاهرات المظاهرة الكبرى في ميدان الأوبرا بعد صدور قرار التقسيم، وكانت في 15/12/47؛ حيث جمعت فيها زعماء وقيادات مصرية وعربية، ومن الشخصيات التي تكلمت فيها: رياض الصلح (لبنان)، الأمير فيصل بن عبد العزيز (السعودية)، جميل مراد (سوريا)، إسماعيل الأزهري (السودان)، القمص متياس الأنطوني.

2- إجراءات عملية للدعم والمساندة على المستوى الشعبي:
أ- التبرعات وجمع الأموال لدعم المجاهدين والشعب الفلسطيني في محنة؛ وذلك من جيوب الإخوان ثم من عموم الأمة التي تفاعلت مع حملات التوعية.
ب- في مارس 1935م تقدَّم الإخوان بمشروع جمع التبرعات والأموال لمساندة قضية فلسطين إلى كل الهيئات الشعبية.
ج- حملة قرش فلسطين التي بدأت مع عام 1939م وتبناها الإخوان ونجحوا فيها.
د- حملة المقاطعة للمؤسسات اليهودية الموجودة في مصر، وقد بدأت من عام 1936م، وأصدر الإخوان بذلك قائمة بهذه المؤسسات، ودعت المصريين إلى عدم التعامل معها؛ حيث كانت تمول عملية الاستيطان اليهودي.
"إن القرش الذي تدفعه لمحل من هذه المحلات إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحًا يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين".
3- تحريك القوى السياسية والشخصيات الوطنية المصرية والعربية في مؤتمرات وفعاليات للخروج بإجراءات عملية لمساندة ودعم القضية، وتقديم المقترحات العملية في هذا الشأن:
أ- في عام 1936م دعا الإمام البنا إلى عقد اجتماع للقوى الوطنية والعلماء والمفكرين في مصر خاص بهذه القضية، وانبثق عن الاجتماع لجنة عليا لمساندة فلسطين برئاسة الإمام البنا وأعضاء من كبار العلماء والمفكرين، وأرسلوا برقيات المساندة للشيخ أمين الحسيني.
ب- عقد مؤتمر عربي حاشد من أجل فلسطين في مصر بالمركز العام عام 1938م شارك فيه زعماء العالم العربي، وكان من بين المشاركين فارس الخوري رئيس وزراء سوريا.
ج- وفي أكتوبر عام 1938م عقب نجاح المؤتمر العربي السابق تم عقد مؤتمر شعبي برلماني على مستوى العالم الإسلامي؛ حيث عقد في سراي آل لطف الله بالقاهرة وحضره وفود شعبية وبرلمانية من المغرب العربي والهند والصين والبوشناق المسلمين وبرلمانيون من مصر وسوريا ولبنان والعراق.. إلخ، بخصوص الترك في هذه القضية.
د- إرسال الدعاة إلى بلدان جنوب شرق آسيا (أ- صالح عشماوي- أ- سعيد رمضان...إلخ) لشرح القضية والتواصل مع القوى السياسية بخلاف دعاتهم المنتشرين في جميع الأقطار العربية.
هـ- مخاطبة القوى الوطنية والمسيحية لمساندة هذه القضية ومنهم الأنبا يؤنس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، وفي أكثر من بيان كان يذكرهم ويخاطبهم وكمثال كان عنوان أحد بياناته "نداء إلى شعب الإخوان المسلمين بالقطر المصري وإلى مواطنينا المسيحيين الأعزاء من أجل فلسطين المجاهد..".
س- في عام 1947م استجابةً لنداء الإخوان تم تشكيل هيئة وادي النيل لإنقاذ القدس وأعضاؤها يمثلون مختلف القوى السياسية في مصر، بالإضافة للإخوان، وقد نظمت أسبوعًا من أجل فلسطين لشرح أبعاد القضية وجمع التبرعات.
ص- وفي عام 1947م نظَّم الإخوان المؤتمر الشعبي لنصرة فلسطين بالجامع الأزهر، وتكلَّم فيه اللواء صالح حرب وأحمد حسين (مصر الفتاة)، بالإضافة للإمام الشهيد، والذي تلا فيه بيان الإخوان بإعلان الجهاد المقدس لتحرير فلسطين، ومما جاء فيه:
"لقد كان عندنا بقية أمل في الضمير العالمي، أما الآن فقد فجعنا في كل هذه الآمال، وكفرنا بهذا الإيمان، وبهذه الحكومات الجاحدة المضللة حكومات الغرب ودوله...".
ع- ومن المشاريع العملية التي تقدَّم بها الإخوان لتلك القوى على مستوى العالم العربي والإسلامي:
- إنشاء صندوق عالمي إسلامي أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنى عنها من أصحابها حتى لا تتسرب لليهود، وقد أرسله للمؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس عام 1931م عقب ثورة البراق، كما أعاد تفعيله في مؤتمر 1938م المنعقد بالقاهرة مع توضيح أساليب اليهود لطرد أهل فلسطين من أراضيهم.
- أن تتكون لجنة عامة لإنقاذ فلسطين بوادي النيل تعلم النفير العام وتنظم جهود المقاومة.

- إنشاء لجان للدفاع عن المقدسات الإسلامية يكون مركزها الرئيس في القدس أو مكة المكرمة وفروعها في العالم الإسلامي كله.
- إنشاء جامعة فلسطين.
- إصدار صحيفة إسلامية خاصة بالقضية تُوزَّع على مستوى العالم الإسلامي، وتعمل على التوعية بالقضية والتوجيه والإرشاد.
- تنظيم المؤتمرات والفعاليات الشعبية على مستوى العالم الإسلامي والتواصل بين هيئاتها لصالح القضية.
- أرسل مقترحًا لوزير الشئون الاجتماعية في مصر وقتها جلال فهيم باشا بتوظيف وتشغيل الشباب الفلسطيني الذي لا يجد مجالاً للعمل ثم تدريبهم وتسليحهم وإرسالهم لفلسطين.
- تقدم الإمام في سنة 1939م بمذكرة إلى علي ماهر رئيس الحكومة المصرية آنذاك طالب فيها بالعمل على إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين إيقافًا تامًّا، واقتراح عليه إجراءات عملية.
- برقية الإمام عام 1936م إلى رئيس وزراء مصر آنذاك يوضح فيها خطر اليهود، وأن علينا أن نستعد ونتهيأ لمواجهة هذا الخطر، وأن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة القوة.
- التعاون مع جامعة الدول العربية، ودفعها إلى التحرك لأداء الدور المطلوب، وكان كثير الصلة بعبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة، وأرسل له عدة مذكرات يطالب بأن يتحرك بقوة لتضغط على الحكومات العربية لكي تأخذ الأمور بحزم وتعلن الجهاد.
وفي برقيته إليه في 8 أكتوبر 1948م نصحه ألا ينخدع بهذه الحلول السياسية التي تعرضها القوى الكبرى مع سرعة الإعداد العملي لإنقاذ فلسطين.
ومما جاء فيها: "إن الإخوان لا يرون سبيلاً لإنقاذ فلسطين إلا القوة، ولهذا يصنعون تحت تصرف الجامعة العربية عشرة آلاف من خيرة شبابهم المجاهدين ككتيبة أولى في جيش الإنقاذ".
4- التواصل مع أهل فلسطين، ومع قادتها وزعمائها للمساندة والتنسيق ودعم الجهاد هناك:
- بدأ الإمام هذا التواصل مع مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني منذ عام 1929م، وكذلك تقدَّم له بمذكرة إجراءات عملية للمؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس عام 1931م، وقد تليت في المؤتمر وأُحيلت المقترحات إلى اللجنة التنفيذية المنبثقة عنه.
وكان الحاج أمين الحسيني يضع ثقته في الإخوان، وقد قال عنهم "إني أؤمن بالإخوان المسلمين؛ لأنهم جند الله الذين يهزمون جنود الشيطان".
- الاتصال بالشهيد عز الدين القسام منذ عام 1933م وما بعدها، وتقديم الدعم والمساندة.
- زيارة من وفد الإخوان في أغسطس 1935م لفلسطين إبَّان الثورة الكبرى للتنسيق والتواصل الميداني.
- التواصل والتنسيق مع اللجنة العربية العليا بفلسطين، والتي تشكلت في نهاية عام 1936 بعد الثورة الكبرى بدعم ومساندة من الإخوان.
- أرسل الصاغ محمود لبيب للتدريب الميداني والصلح بين قادة منظمتي "النجادة" و"الفتوة" اللتان تجاهدان في فلسطين عام 1948م؛ وذلك لتحقيق الوحدة والتئام الصفوف.
من الوفود التي أرسلها الإمام الشهيد نذكر الأساتذة: عبد المعز عبد الستار- محمد أسعد الحكيم- عبد العزيز أحمد- عبد الرحمن الساعاتي- بخلاف الصاغ محمود لبيب والشيخ محمد فرغلي وآخرين غيرها.
وذلك للمساندة وتنظيم أعمال المقاومة والتمهيد لدخول الإخوان ميدان الجهاد في فلسطين، كما زار الإمام الشهيد نفسه أرض فلسطين انطلاقًا من غزة عند زيارته لمواقع المجاهدين.
5- الضغط على الحكومات الأجنبية، واتخاذ المواقف القوية تجاه الأحداث، والتحرك على المستوى العالمي، ومن أمثلة ذلك:
- توجيه خطابات التحذير للحكومات الغربية، خاصةً إنجلترا وأمريكا إزاء ما يقدمونه من دعمٍ للمشروع الصهيوني.

- مذكرة احتجاج واستنكار أرسلها الإمام الشهيد في 12 أغسطس 1944م إلى وزير أمريكا المفوض للتنديد بالموقف الأمريكي المشئوم؛ حيث وقتها طالبت أمريكا بهجرة مائة ألف يهودي دفعةً واحدة.
وكذلك أرسل خطابًا مفتوحًا للحكومة والشعب الأمريكي بهذا الشأن؛ ومما جاء فيه: "إننا نحن- الإخوان المسلمين- باسم الشعب المصري والشعوب الإسلامية لنرفع عقائرنا محتجين على هذا التصريح المشئوم الذي تنادي به أمريكا اليوم متحديةً به شعور أربعمائة مليون مسلم".
".. ونحن باسم الإخوان المسلمين ومن ورائهم كافة العرب والمسلمين في مختلف أقطارهم نحذر حكومتكم من الاسترسال في هذه السياسة الصهيونية الجائرة فإنها وحدها هي التي تضمن لكم أن تخسروا معركة السلم في العالم العربي والإسلامي كله، وإذا خسرتم صداقة العرب والمسلمين فلن تجدوا عوضًا عنها عند اليهود والصهيونية..".
وعند اعتراف أمريكا بإسرائيل بعث الإمام البنا برقية إلى الرئيس ترومان قال فيها: "اعترافكم بالدولة الصهيونية إعلان حرب على العرب والعالم الإسلامي، وإن اتباعكم لهذه السياسة الخادعة الملتوية لهو انتهاك لميثاق هيئة الأمم والحقوق الطبيعية للإنسان وحق تقرير المصير، وستؤدي حتمًا إلى إثارة عداء دائم نحو الشعوب الأمريكي، كما تستعرض مصالحه الاقتصادية للخطر وتودي بمكانتكم السياسية فنحملكم المسئولية أمام العالم والتاريخ والشعب الأمريكي".
كما أرسل رسالة شابهه إلى السفير البريطاني بالقاهرة يستنكر دورهم ويذكر فيها "إن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميًّا عربيًّا حتى يرث الله الأرض ومن عليها".
وعندما صدر قرار التقسيم من الأمم المتحدة وجَّه الإمام البنا نداءً قويًّا ناشد فيه الحكومات العربية والإسلامية بأن تنسحب فورًا من الأمم المتحدة.
وأن تتهيأ الشعوب الإسلامية للدفاع عن فلسطين؛ وذلك بعد وضوح ضعف حكوماتها.
وفي بيانه القوي الذي أعلنه في اجتماع رؤساء المناطق والشعب عام 1942م أشار إلى "إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين، وهذه الحقيقة يجب أن تضعها الدول المتحدة نصب عينها فصداقة المسلمين والعرب في كفة ومطامع اليهود في فلسطين في الكفة الأخرى".
6- رفض المشاريع والحلول الجزئية التي تعطي لليهود أي حق في فلسطين والضغط الشعبي والعملي على الحكومات لرفض ذلك.
أ- رفض مشروع التقسيم الثلاثي الذي تقدَّمت به اللجنة الملكية البريطانية عام 1937م تحت ضغط حركة الجماهير وثورة أهل فلسطين الكبرى؛ حيث اقترحت تقسيم أرض فلسطين إلى ثلاثة أقسام قسم لليهود وآخر للعرب وثالث يبقى تحت سيطرة بريطانيا مباشرة.
وقد أكد الإمام الشهيد مع الرفض القاطع أن هذا المشروع يعني القضاء على حقوق العرب كله "ولن يخطر ببال عربي واحد أن يفكر فيه فضلاً عن أن يقبله".
ورفض الإمام البنا الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانية لمحاولة استيعاب الموقف عام 1939م وخداع الشعوب العربية.
رفض الإخوان مشروع اللجنة الأمريكية البريطانية الذي يقضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود؛ وذلك قبل عرضه على الأمم المتحدة.
وعندما أجازته في نوفمبر 1947م استنكر الإمام، وشنَّ عليه حملةً قوية، وطالب بانسحاب الدول العربية والإسلامية من الأمم المتحدة، وأرسل إلى السكرتير العام للأمم المتحدة ووزير خارجية أمريكا معلنًا هذا الرفض.
7- المشاركة العسكرية الميدانية داخل فلسطين وقتال العصابات الصهيونية:
وقد بدأ هذا الاستعداد مبكرًا بإنشاء النظام الخاص وتدريبه للجهاد في فلسطين وعلى ضفاف القناة ضد الإنجليز.
التواصل الجهادي منذ عام 1935م والمساعدة في جمع السلاح وإيصاله للمجاهدين داخل فلسطين، وكان الصاغ محمود لبيب على صلةٍ وثيقة بالشهيد عبد القادر الحسيني لهذا الأمر، وأصبح هو ضابط الاتصال بين الإخوان والهيئة العربية العليا في شئون التسليح المشكلة لفلسطين.
وكان هذا محورًا أساسيًّا في عام 1946م وما بعدها الدفع بالمئات من شباب الإخوان المجاهدين إلى أرض فلسطين رغم كل محاولات الإنجليز لمنع ذلك ومساعدة الحكومة المصرية إلا أنه وبصورة هادئة تمكَّن شباب الإخوان من التسلل إلى أرض فلسطين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية ثم تحت الضغط الشعبي الذي قاده الإخوان، وتمكَّنوا من إرسال كتائبهم المجاهدة تحت مظلة جامعة الدولة العربية، وأنشأوا لها معسكرات التدريب وجمع السلاح لها، وعندما تطورت الأحداث على أرض فلسطين أعدوا عشرة آلاف كان الإمام سيدخل معهم أرض فلسطين، لكن وقفت الحكومة ضد ذلك وأعلنت قبول الهدنة ثم اغتالت الإمام الشهيد وزجَّت في السجون بالمجاهدين داخل وخارج مصر بناءً على توجيهات وتعليمات القوى الكبرى المساندة لليهود.
كان لدخول الإخوان أرض فلسطين تأثير كبير، وشكَّلوا خطرًا شديدًا على اليهود الذين ضجَّوا بالشكوى، وطالبوا بسرعة التدخل لإيقاف ذلك.
ما أشرنا إليه هو أمثلة موجزة فقط لتوضيح أبعاد الرؤية وآليات التعامل من جانب الإخوان، أما تفعيل الأمور وجمع كل الحقائق فما زال يحتاج إلى بحث شامل ومجهود كبير، خاصةً أن الكثير لم يمط عنه اللثام ولم يُسجَّل حتى الآن.
لقد تقدَّم الإمام البنا للحكومات والهيئات السياسية في مواجهة اغتصاب اليهود لفلسطين بمشروعين: مشروع سياسي ومشروع عسكري جهادي متلازمين، وبلور المشروع السياسي في المذكرة التي أرسلها لجامعة الدول العربية عام 1947م بأن تتحرك الجامعة للضغط على الحكومات العربية باتخاذها موقفًا موحدًا، وإعلانها جميعًا الجهاد حتى تجلو الصهيونية عن البلاد أو يوافق اليهود على أن يعيشوا مع العرب في ظل الدولة الفلسطينية الحرة على أن يرد إلى وطنه الأصلي كل يهودي دخيل بعد الحرب العالمية.
وأن يكون الواقع الميداني على أرض فلسطين هو الحاسم في فرض هذا الأمر.
وأما المشروع العسكري فقد كان حول الاعتماد على المقاومة الفاعلة الميدانية وإعطاء الغطاء الشرعي لها والدعم اللوجستي من الحكومات العربية خاصةً المناخمة لحدود فلسطين.
وأن تدع الحكومات فصائل المقاومة الفعالة من جميع الشعوب العربية والإسلامية وهي كثيرة أن تتحرك على ميدان فلسطين دون أن تلتزم هذه الحكومات بشيء أمام هيمنة الدول الكبرى عليها؛ وبذلك تستطيع أن تهرب من الضغط الذي تتعرض له.
وأن تكون هذه المقاومة مكافئة للواقع الذي تواجهه وتستطيع دحر وهزيمة العصابات الصهيونية، وأنها لن تقف عند أي حدود حتى تحقق الهدف وتغير الواقع الميداني على أرض فلسطين.
لكن هذه الحكومات العربية الهزيلة رفضت ذلك وانتهزتها فرصة للاستعراض وكسب البطولات وإطلاق الشعارات دون أن تدرك الواقع بعمق، وأن موازين القوى قد تغيَّرت بين جيوشها وبين تلك العصابات الصهيونية.
ومع ما قدَّمه الإمام البنا إلا أنه اختطَّ لجماعته مشروعًا إستراتيجيًّا بعيد المدى بشأن هذه القضية يرسخ فيه مبدأ المقاومة، ويوظف طاقات الأمة، ويحافظ على الثوابت والأهداف.
وهو ما يحتاج أن نشير إليه في المقالة القادمة مع تناول ما قام به بالدراسة والتحليل إن شاء الله.
* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق