الأحد، 24 مايو 2009


دور الدعاة والعلماء نحو غزة وفلسطين

د. عبد الرحمن البر
إن الدعاة يستمع إلى خطابهم شرائح عدة من المجتمع إن لم تكن كافة الشرائح، ولذلك فإن لهم الدور الأكبر والأساسي في تعبئة عقول الأمة وأرواحها وأبدانها وإيقاظ الوعي وتصحيح المفاهيم لديها عن قضية فلسطين وعن حصار غزة، وعن طبيعة الصراع بيننا بين الصهاينة عن طريق: 1- التعريف بالقضية، وجذورها التاريخية، وبيان حقيقة الصراع مع اليهود وبُعده الديني، وأن جهاد المجاهدين يأتي من منطلق رد العدوان واسترداد الحقوق، وأن القضية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولكنها قضية المسلمين جميعا، والرد على الزعم بأن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم لليهود، ومن ثَمَّ لا يستحقون النصرة، والتعريف بجهاد الشعب الفلسطيني بمختلف فصائله، وإبراز نماذج المجاهدين ودور التيار الإسلامي في هذا الكفاح.
2 - كشف خداع المصطلحات والأسماء، وتكريس المعاني الصحيحة لها في أذهان الناس وعلى ألسنتهم، فالجهاد ومقاومة المحتل ليس إرهابًا، والعمليات الاستشهادية ليست انتحارًا...إلخ، والتأكيد على أن ما يحدث للأمة عموما ولأهل غزة خصوصا هو بسبب تخلي المسلمين والعرب عن الأخلاق والقيم والشرائع فيما بينهم، وبيان أهمية جهاد النفس، وتنمية الإيجابية، وتأكيد شمول معنى الجهاد للجهاد المسلح، والجهاد بالمال وبالكلمة والمقاطعة الاقتصادية، والتضامن المعنوي، وأن لكل فرد من الأمة دوره في هذا المضمار، وليس لأحد حُجَّة في التخلف والتخاذل والتراخي.
3 – الرد على الشبهات التي يثيرها المتخاذلون والمخذِّلون لصرف الأمة عن دعم الجهاد والمجاهدين، ومنها: الادعاء بأن الصواريخ والقذائف التي يطلقها المجاهدون لا فائدة منها وضررها أكبر من نفعها وأنها تعطي مبررا للاعتداءات الصهيونية المتكررة وذريعة للصهاينة للتنكيل بالشعب الفلسطيني.
ومنها: الادعاء بأن الشعب الفلسطيني منقسم بين فتح وخماس بصورة تمكن العدو منه، وأنه لا يجب نصرة قضية فلسطين إلا بعد أن يتحد الفرقاء في فلسطين أولا.
ومنها: الادعاء بأن المقاومة الجهادية البطولية في فلسطين هي السبب فيما آلت إليه الأوضاع أخيرا من مجازر وحشية وحرب إبادة صهيونية بسبب رفضها تمديد التهدئة مع ضعفها وعدم قدرتها على حماية الشعب من العدوان الصهيوني الهمجي.
4- مواجهة الإحباط واليأس الذي قد يتسرب إلى قلوب الجماهير، وبث الأمل في النفوس، والتأكيد على الثقة بالله سبحانه وتعالى، وإعادة الثقة بالنفس فرديًّا وجماعيًّا، وبقدرتها على المواجهة الإيجابية، وإشاعة روح الجهاد في الأمة، والتأكيد على أهمية التربية للفرد وللمجتمع، والتأكيد على أن هناك حسابات ومعايير أخرى للنصر إضافة إلى الحسابات والمعايير المادية الظاهرية.
5 - التركيز على إبراز قدوات ومُثُل عليا من المجتمع الفلسطيني، وترويجها في مجتمعاتنا، مثل نموذج الشباب الاستشهادي، والمرأة الاستشهادية، والأم التي تدفع أبناءها للاستشهاد وتقيم الأفراح عندما يأتيها خبر استشهاد أحدهم، والطفل الأعزل الذي يتصدى للدبابة بثبات؛ لتوعية الجماهير ونشر ثقافة المقاومة والجهاد بين الأمة بكافة طوائفها، وإحياءَ الآمال في النفوس، بإبراز البطولات والتضحيات، ونشرِ قصص الجهاد والاستشهاد من التاريخ البعيد والقريب، ومن واقع الجهاد في فلسطين وغزة، وترديدِ عبارات الشهداء ووصاياهم في الأحفال والمناسبات المختلفة.
6 - الدعوة إلى تحويل المشاعر والعواطف تجاه ما يحدث في فلسطين وغزة هاشم إلى أفعال إيجابية ومؤثرة، تتمثل في تقديم الدعم المادي للفلسطينيين، وقيام الليل مع القنوت والدعاء لأهل غزة وللمجاهدين بالنصر والتمكين،
وبذلك تظل القضيةُ حيةًً في نفوس شباب الأمة، يتلقاها الجيل عن الجيل بعزمٍ أكبر وإصرارٍ أشد على مواصلة مسيرة الجهاد، حتى يفتح الله بيننا وبين عدونا بالحق، وهو خير الفاتحين.
سلاح الدعـاء: من صور الجهاد باللسان الذي يقوم به الدعاة ويدعون إليه الأمة: القنوت والدعاءُ على الأعداء، ذلك السلاح الفتاك الذي لا يحسن استخدامَه إلا المؤمنون الصادقون، الذين يتحرَّوْن جوف الليل الآخر ليقوموا بين يدي الله ضارعين مستغفرين، طالبين من الله النصر والتأييد؛ لأنهم يعلمون أنه وحده مالك الملك ومدبر الأمر، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 126) ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الجيش في بدر يُلِحُّ على الله في الدعاء ويرفع يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وهو يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة: "اللهم إني أَنْشُدُك عهدَك ووعدَك، اللهم إن شئتَ لم تُعْبَدْ بعد اليوم" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححتَ على ربك. وهو في الدِّرْع، فخرج وهو يتلو قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 45 – 46).
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
قال الإمام السهيلي: "سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونَصَبه في الدعاء؛ لأنه رأى الملائكةَ تنصَب في القتال، والأنصارَ يخوضون غمار الموت، والجهادُ تارةً يكون بالسلاح وتارةً بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراءَ الجيش، لأنه لا يقاتل معهم، فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء".
قلت: بل الدعاءُ أهمُّ الأمرين، ولذلك تشاغل به أعظمُ المجاهدين صلى الله عليه وسلم، فإن النصر لا يكون بقوة الجيش وكثرة العدد وحسن التدرب واحتراف القتال فحسب، بل لا معنى لكل ذلك إذا لم يكن معه توفيقٌ من الله، وقد قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ولم يزل المؤمنون يلتمسون الخير والنصر في لقائهم لعدوهم بدعاء الصالحين، وقد مرَّ قتيبة بن مسلم فاتح بلاد الهند بمحمد بن واسع وهو منفرد عن الجند يصلي ويدعو الله ويرفع إصبعه علامة التوحيد فقال: هذه الإصبع الفاردة أحبُّ إليَّ من مائة ألف.
وكلما نسي المسلمون هذا المعنى، وأهملوا هذه القيمة الكبرى لأثر الدعاء وقيمته واغتروا بما أعدوا من قوةٍ ابتلاهم الله بالهزيمة، وأخذَهم بالشدة ليعودوا إليه ويعتمدوا عليه.
فإلى القنوت و الدعاء الصادق في أعقاب الصلوات، وفي الأسحار أيها المسلمون وأيها الدعاة، حتى ينزل الله نصره على عباده المجاهدين.
لا عذر لأحد في التأخر والنكوص:
الحقيقة أن الأمة بكل طوائفها لا عذر لأي فرد منها في القعود عن الجهاد بماله وبلسانه، ويكون الفرضُ أتَمَّ والواجبُ أكبرَ على النخب التي تتولى توجيه الرأي العام في الأمة، وهم الدعاة والإعلاميون والمعلمون والمثقفون وأمثالهم، عن طريق المشاركة في حملات التبرع بالدم والمال والغذاء والدم وإقامة معارض ومحاضرات في المساجد ودور المناسبات والجمعيات والمنتديات للتعريف بالقضية وما ينبغي عمله والأدوار المتاحة.
وليس لأحد أن يبرر قعوده بالضغوط التي تمارس عليه من قبل إدارته أو من قبل أية أجهزة تحاول منعه من القيام بواجبه في تبصير الأمة ونصرة المجاهدين. وليتذكر الجميع موقفهم بين يدي الله تعالى، وليعدوا للسؤال جوابا.
وليعلم الدعاة أن مسئوليتهم بين يدي الله أشد، وأن الأمة بأكملها تنتظر قيامهم بدورهم وتقدمهم للصفوف في هذه القضية التي هي قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، وليذكروا دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرائد لا يكذب أهله"، فلا تكذبوا أيها الدعاة أمتكم، وهيا إلى ميدان الجهاد بالكلمة والموقف، وتقدموا الصفوف، والله معكم والأمة من ورائكم {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهذه بعض المراجع التي يمكن الرجوع إليها والاستعانة بها:
- معركة الوجود بين القرآن والتلمود - للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد.
- القدس قضية كل مسلم - للدكتور يوسف القرضاوي
- الجهاد في سبيل الله طريق النصر - للدكتور عبد الرحمن البر
- زاد الخطيب إلى الأقصى الحبيب - مركز الإعلام العربي.
- مراجعة تفسير آيات الجهاد وبخاصة في سورة التوبة في كتب التفسير المتعددة.
القدس مشروع تحرير متواصل
الشيخ / رائد صلاح
لا ينكر عاقل أن القدس الشريف في خطر ، وأن الأقصى المبارك في خطر ، ولا ينكر عاقل أن الطرف الإسرائيلي ينظر إلى القدس كقضية تحظى بإجماع ديني وقومي لدى كل الأطياف السياسية والدينية الإسرائيلية، فهم يجمعون فيما بينهم على ضرورة تهويد القدس، وتوسيع مسطح نفوذها بهدف إنجاز المشروع الذي يسمونه "القدس الكبرى" أو "القدس التاريخية" وواضح كل الوضوح لديهم أن ذلك سيُتوَّج ببناء " هيكل" على حساب "الأقصى المبارك" وعلى هذا الأساس يبقى السؤال المطروح : ما الدور المطلوب؟
أولاً : لن ينجح "الدور المطلوب" إلا إذا تعاملنا مع القدس كقضية إسلامية عربية تهم كل مسلم وكل عربي في كل العالم ، لأن التعامل معها كأنها قضية فلسطينية أو كأنها للمفاوض الفلسطيني يجعلها في مهب الريح، لذلك يجب تأكيد أنه لا يملك أحد أن يوقع على حل ما حول القدس دون التمسك بالعمق الإسلامي ، والعربي .
ثانياً : لن ينجح "الدور المطلوب" إذا تعاملنا مع القدس كقضية إنسانية فقط ، بل يجب التعامل معها كقضية حضارية تحمل الجانب الإنساني ضمن ما تحمل ، فالمطلوب الحفاظ على إسلامية القدس الشريف والأقصى المبارك بكل أبعادهما الحضارية ،وعدم التوقف عند كفالة اليتيم فقط ، أو إعالة الأسرة المستورة فقط ، هذا بعض الدور وليس كل الدور ، هذا هو الدور الإنساني كجزء من دور حضاري مطلوب .
للأسف الشديد اجتهد عالمنا الإسلامي والعربي في أن يقدم الدعم للقدس الشريف والأقصى المبارك يوم أن كانت الانتفاضة المباركة ، ويوم أن كان العالم الإسلامي والعربي يرى مشاهد القتل ، والجراح ، والأطفال الباكين ، والأرامل والنائحات ، فكان عالمنا الإسلامي يقدم الدعم المادي والمعنوي للقدس الشريف والأقصى المبارك ، ولكن عندما أجهضت الانتفاضة بأيد فلسطينية لبست مسوح البطولة المزيفة ، والنصر المزيف ، يوم أن أجهضت الانتفاضة وتوقفت اختفى – تقريباً – كل الدعم المادي والمعنوي من عالمنا الإسلامي والعربي للقدس الشريف أو الأقصى المبارك !! وهنا الخطر وأي خطر ، إذا ظل الحال على ما نحن عليه فستهود القدس ونحن ننظر إليها دامعين ، وقد نكون صادقين في دموعنا ، ولكن صدق الدموع لا يغني عن ضرورة العمل ، أعود وأقول : لن يكون ذلك إلا إذا تعاملنا مع قضية القدس كقضية حضارية تشمل القضية الإنسانية ، ولذلك مستلزمات كثيرة ومستحقات ثقيلة .
ثالثاً : لابد لنا من أن نفهم فهماً سليماً أن رسول الله e قد جعل القدس الشريف والأقصى المبارك مشروع تحرير متواصل إلى قيام الساعة ، والمطلوب من الأمة الإسلامية والعالم العربي مواصلة السعي حتى تحريرها دون توقف ، بداية من جيل الصحابة – رضي الله عنهم – إلى ما شاء الله من أجيال لاحقة ، والمطلوب عدم التثاقل إلى الأرض إذا ألمت بالقدس الشريف والأقصى المبارك أي نائبة … مشروع تحرير فإن ذلك يعني أن القدس الشريف والأقصى المبارك سيصابان بانتكاسات عديدة ستطول طهرهما ، وبركتهما ، وحريتهما ، والمطلوب المبادرة إلى تحريرهما ، وقد كانت مثل هذه الانتكاسات في الماضي ، كما هي اليوم ، وقد تكون في المستقبل ، لذلك فعلينا أن نفهم أن تحرير القدس الشريف والأقصى المبارك هو مشروع متواصل كلما ألمت بهما انتكاسة ، بمعنى أن قضية تحريرهما ليست لمرة واحدة كانت ولن تعود ، بل ليست لمرتين أو لمرات كانت ولن تعود ، بل إن قضية تحريرهما هي مشروع تربوي ووحدوي يجب أن يجمع الأمة الإسلامية والعالم العربي ، وأنا شخصياً لديَّ القناعة المطلقة بأن الأمة الإسلامية والعالم العربي بحاجة ماسة إلى القدس الشريف والأقصى المبارك كي يوحدا فرقتهم ، ويجمعا تمزقهم ، هذه الفرقة وهذا التمزق الذي جاء ثمرة نكدة لدعوات جاهلية معاصرة كاذبة ما أسمنت وما أغنت من جوع ، وما حفظت للأمة الإسلامية والعالم العربي ديناً ولا دنيا ، بل أضاعت الإنسان والأوطان وبات كل شيء فينا في خطر ، لذلك هناك حاجة ماسة وفورية إلى تجديد إحياء القدس الشريف والأقصى المبارك كمشروع تحرير أبدي دعا إليه الرسول محمد .
الدور المطلوب
رابعاً : هذا "الدور المطلوب" يحتاج منا إلى إنشاء صندوق عالمي للحفاظ على إسلامية القدس الشريف والأقصى المبارك بحيث يعمل هذا الصندوق على ما يلي :
1) الحفاظ على الآثار الإسلامية وترميمها .
2) الحفاظ على المقدسات والأوقاف ، وإعمارها .
3) الحفاظ على البيوت القديمة خاصة المحيطة بالأقصى المبارك .
4) دعم مؤسساتنا وأهلنا بهدف دعم صمودهم في القدس الشريف .
5) دعم موظفي الأقصى المبارك بشكل خاص ، بما في ذلك حراسه و الأذنة فيه .
6) دعم إعداد أفلام وثائقية عن القدس الشريف ، والأقصى المبارك .
7) إعمار الأقصى المبارك بكل ما يحتاج إليه .
8) إعداد نشرة شهرية أو تقرير سنوي دائم عن كل التجاوزات الإسرائيلية في القدس الشريف والأقصى المبارك .
9) دعم منح دراسات عليا عن القدس الشريف والأقصى المبارك .
10) تشكيل لجنة علماء آثار من الثقات لبحث وفحص ما يجري تحت الأقصى المبارك وتوثيق الوضع القائم أو أي متغيرات .
11) إقامة مكتب إرشاد سياحي ثابت في الأقصى المبارك .
12) العمل على إحياء ذكريات تاريخية عن القدس والأقصى ، كيوم حطين ، أو يوم البيارق ، أو يوم عين جالوت.
13) رعاية مسابقة معلومات عالمية عن القدس والأقصى .
14) رعاية مسابقة عالمية في الشعر ، والأدب ، والمسرح والنشيد ، حول القدس والأقصى ، وأن يقام لها مهرجان عالمي يرعى المتسابقين ، والفائزين ، ويقدم لهم الجوائز .
15) رعاية مسابقة عالمية للأطفال تشمل مسابقة معلومات ومسابقة رسم .
16) نقل جميع الصلوات في المسجد الأقصى المبارك نقلاً حياً ومباشراً عبر موقع في الإنترنت .
17) إعداد دائرة معارف عن القدس والأقصى المبارك .
خامساً : هذا "الدور المطلوب" يحتاج منا إلى اعتبار يوم سقوط القدس في عام 1967م يوم نكبة على الأمة الإسلامية وإحياؤه بكثير من الفعاليات وعلى سبيل المثال :
1) تخصيص دعاء وتعميمه لنصرة القدس والأقصى المبارك يتوجه به كل المسلمين في هذا اليوم إلى الله تعالى متضرعين .
2) تخصيص صدقة مالية في هذا اليوم لدعم القدس والأقصى ، تطلب هذه الصدقة من كل مسلم كبيراً كان أو صغيراً يستطيع إلى ذلك سبيلاً ، ولتكن هذه الصدقة باسم "دينار القدس" أو "درهم القدس" .
3) الطلب من كل خطباء الجمعة القريبة في هذا اليوم الحديث عن القدس والأقصى ، بما في ذلك المسجد الحرام ، والمسجد النبوي الشريف ، والمسجد الأقصى المبارك .
4) إقامة مسيرات ومهرجانات شعبية نصرة للقدس والأقصى ، تنظم في ذلك اليوم بشكل خاص.
سادساً : هذا "الدور المطلوب" يحتاج منا إلى الضغط على الفضائيات العربية كي تغطي أخبار القدس والأقصى ، وأخبار الفعاليات المختلفة التي تقوم نصرة للقدس والأقصى ، فهل يعقل أن يقام مهرجان "الأقصى في خطر" على مدار أربع سنوات ماضية بمشاركة أكثر من خمسين ألف مسلم ومسلمة ، ولم تغط هذا المهرجان إلا محطة الشارقة الفضائية ، وكان ذلك في مهرجان "الأقصى في خطر" الثالث .
سابعاً : هذا الدور المطلوب يحتاج منا إلى إعداد وثيقة شرف تؤكد أهمية القدس والأقصى وتؤكد حرمة التفريط فيهما ، بحيث إن هذه الوثيقة تحظى بتوقيع علماء المسلمين ودعاتهم والقيادات السياسية الفاعلية والصادقة في عالمنا الإسلامي والعربي ، ثم توجه هذه الوثيقة إلى الحكام والشعوب لتصبح مرجعية تعامل مع القدس الشريف ، والأقصى المبارك .
ثامناً : هذا الدور المطلوب يحتاج منا إلى تربية الأمة الإسلامية والعالم العربي على (المدافعة الإيجابية الشعبية) بمعنى مقاطعة كل منتجات أهل الأرض أياً كانوا من أعداء القدس الشريف ، والأقصى المبارك أو ممن يناصرون أعداء القدس الشريف والأقصى المبارك .
تاسعاً : هذا الدور المطلوب يحتاج منا إلى اعتماد مكتب ثابت في القدس الشريف أو أكنافه لمتابعة تنفيذ هذه التوصيات .
عاشراً : هذا الدور المطلوب يحتاج منا إلى عقد لقاء سنوي لمتابعة تنفيذ هذه القرارات وتقويمها .
أحد عشر : أخيراً هذا الدور المطلوب يحتاج منا إلى تحويل قضية القدس الشريف والأقصى المبارك إلى مشروع تحرير أبدي في هذه الدنيا إلى قيام الساعة .
قال سبحانه {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف21 .

القدس كمدينة تعيش في هذه الأيام أصعب فترات حياتها، حيث التهويد الذي قضى على جميع أراضي المدينة، وكذلك الجدار الذي يخنق الأحياء الفلسطينية، والحفريات تحت أساسات المسجد الأقصى تمهيدا لتدميره، فقد شكلت مدينة القدس منذ البداية هدفاً استيطانيا مركزياً عند الحركة الصهيونية في جميع مراحل الصراع العربي الصهيوني.

إن ما تقوم به المؤسسة الإسرائيلية حالياً لربما يصب في التسريع في إحكام السيطرة على المسجد الأقصى والإسراع في تهويد البلدة القديمة، فقد قامت سلطات الاحتلال بوضع إشارات وعلامات باللغة العبرية وبمسميات عبرية على مداخل الأحياء العربية، فالقادم إلى سلوان من جهة باب الأسباط-أحد بوابات الأقصى- يرى على المدخل الضيق للحي إشارة برتقالية صغيرة، مكتوب عليها باللغة العبرية "عير دافيد"، أي مدينة داود، وفي الحقيقة هي سلوان.

مواقف السيارات والأرصفة المبلطة وامنازل المسقوفة بالقرميد، لا يمكن أن تعطي الانطباع بأن الوضع على ما يرام، وأن ذلك يندرج في إطار التعايش السلمي الذي تروج له (إسرائيل)، فهذه المشاهد التي تطغى عليها الأعلام الإسرائيلية ما هي إلا جزء من الاستيطان اليهودي الذي تغلغل إلى العديد من أرجاء الحي.

إن عدد البؤر الاستعمارية في سلوان يبلغ حاليا 55 بؤرة، تشمل منازل وساحات وعمارات وشقق، تتركز في وادي حلوة، لأن هؤلاء المستوطنين يعتقدون بأن نشأة الدولة العبرية اليهودية قبل 3000 عام كانت في وادي حلوة".

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن أعمال الحفريات أسفل المسجد الأقصى مستمرة ليل نهار، وتعتبر الحفريات التي تقوم بها جماعة أمناء الهيكل تحت المسجد الأقصى من أهم الأخطار التي تحيق به، وقد بدأت هذه الحفريات منذ عام 1967 تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم امتدت في عام 1968 تحت المسجد الأقصى نفسه، وذلك لتعريض أساسات المسجد الأقصى للخطر، وبالتالي تعريض المسجد للانهيار والهدم وإعادة بنائه بصورة جديدة من أجل تغيير ملامح المدينة المقدسة والمسجد الأقصى والأحياء الفلسطينية حسب المخططات الصهيونية.

و أن هناك خمسة أنفاق تم حفرها منذ سنوات تحت سلوان، منها ما يصل إلى سور الأقصى ومنها ما يصل إلى حائط البراق ومنها ما يصل إلى منطقة سلوان الجنوبية، وما زالت الحفريات جارية على قدم وساق، ومؤخرا أصدرت هذه الجماعات الاستيطانية خرائط جديدة لسلوان تحمل أسماء عبرية للمواقع والمنشآت، من اجل فرض أمر واقع تهويدي، مستخدمين في ذلك العديد من طرق الاستيلاء على العقارات العربية تكون بعدة أساليب، كتزوير الوثائق أو شرائها من أصحابها ذوي الضمائر الميتة، أو تحويلها لليهود باعتبارها أملاك غائبين.

وأن ما قامت به السلطات الإسرائيلية أخيراً هو جزء من هذه المخططات إن (إسرائيل) ساعية نحو تهويد المسجد الأقصى وما يحيط به من قرى وتجمعات فلسطينية، فعلى مدخل سلوان أقيم مركز الزوار وهو مركز خاص يعرف الزوار والسياح الأجانب بالموقع على انه لليهود، حيث يقدم الدليل السياحي لمحة عن الآثار، ويدعي ويكذب مستخدما العبارات والمصطلحات اليهودية، متجاهلا التاريخ العربي والإسلامي، وتعود أرباح المركز لجمعية "إلعاد الاستعمارية" المتخصصة بالاستعمار في سلوان

كما أن السلطات الصهيونية تسعى إلى تفريغ المنطقة من سكانها الشرعيين، فقد شرعت بلدية القدس بهدم ما يزيد عن أربعمائة بيت في سلوان، منذ عام 2000 حتى يومنا هذا ، و أن عدد البيوت المهددة بالهدم يبلغ 2200 بحجة البناء غير المرخص، علما بأنه لا يمكن الحصول على رخصة بناء بسهولة.

إن تهويد القدس وتقويض المسجد الأقصى من مكانته في قلوب المسلمين هو هدف صهيوني تسعى إليه السلطات الصهيونية منذ عشرات السنين، من أجل تغيير ملامح المدينة الإسلامي والجغرافي والديموغرافي، فتهويد القدس أولاً وآخراً ذلك هو الحلم الصهيوني الذي تسعى إليه الحركة الصهيونية، والذي لا تراجع عنه من وجهة نظرهم مهما تكن الأسباب والظروف، مستغلين ما تعانيه أمتنا من أوضاع الفرقة والضعف والهوان.

الأحد، 17 مايو 2009


رحلة في تاريخ القدس
أولا:: من بَنى المسجد الأقصى؟
عند الشروع في التعرف إلى المسجد الأقصى المبارك، في مفهومه وتاريخه، فإن أول ما نحتاج للإجابة عليه، هو متى بنيَ المسجد الأقصى، ومن بناه؟
بقيت هذه المسألة شغل العلماء والمؤرخين المسلمين، ووضعوا لتفسيرها عدَّة فرضيات مدعومة بقرائن واستقراءات منطقية من الحديث والسنة المشرفة، فوصلتنا من هذه الآراء ثلاثة أقوال ، هي:
الملائكة هم من بنوا المسجد الأقصى.
سيدنا آدم عليه السلام.
سيدنا إبراهيم عليه السلام.
إلا أنَّ الرأي الأول القائل بأن الملائكة هم بُناة المسجد الأقصى، ضعفه كثير من العلماء، مرجِّحين أن يكون البشر هم بُناة المسجد لا الملائكة، فالملائكة لهم بيتهم وبناؤهم في السماء وهو البيت المعمور المقابل للكعبة المشرَّفة في الأرض.
وبذلك نستبعد الرأي الأول ، ونبحث في المقارنة بين فرضيّتي سيدنا آدم وسيدنا إبراهيم عليهما السلام.
وللانطلاق في هذا البحث نعود إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ اَبِي ذَرٍّ، قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اَىُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِيالاَرْضِ اَوَّلُ قَالَ ‏"‏الْمَسْجِدُالْحَرَامُ ‏"‏ ‏.‏ قُلْتُ ثُمَّ اَىٌّ قَالَ ‏"‏الْمَسْجِدُالاَقْصَى‏"‏ ‏.‏قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ ‏"‏ اَرْبَعُونَ سَنَةً .." (متفق عليه..)
بالاستناد إلى هذا الحديث، فإننا نستطيع الاجابة على سؤال: متى بني الأقصى؟ فنقول أنه بني بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة كما ثبت بالحديث الصحيح..
أمّا كلمة ( وُضع ) التي جاءت في الحديث الشريف، فإنها تؤشّر بوضوح على معنى : ( التسمية والتحديد ) لتلك البقعة المباركة، وتخصيصها بكونها مسجداً لله دوناً عن ما جاورها من الأرض.
أصحابُ الرأي القائل أن إبراهيم -عليه السلام- هو الباني للمسجد الأقصى، يستدلّون على ذلك بأن القرآن الكريم ذكر قصة بناء الكعبة المشرفة على يد إبراهيم –عليه السلام- ويرون بما أن المسافة الزمنية ما بين بناء المسجدين هي أربعون سنة، فإن الباني واحد وهو سيدنا إبراهيم. ويدعمون رأيهم بأن إبراهيم-عليه السلام- كان يعيش في الارض المقدسة (فلسطين) وثبُت تاريخياً أنه دخل المسجد الأقصى وصلى فيه، والتقى بملك اليبوسيين الصالح "ملكي صادق".
يقول تعالى: " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (127 : البقرة)
لكن الآية الكريمة أساس الاستدلال، تقطع بوضوح، أنّ سيدنا إبراهيم حين بنى الكعبة فإنه رفَع قواعدَ كانت موجودةً أصلاً في المكان، فكان بناء إبراهيم للكعبة بناء ترميم وتجديد ، وليس بناء إيجادٍ من العدم، مما يؤشّر على أن الكعبة كانت مبنيَّة قبل إبراهيم –عليه السلام- ، ومما يعزّز هذا الرأي، قوله عز وجل في سياق قصة ارتحال إسماعيل –عليه السلام- رضيعاً مع أمه إلى مكة : " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " ( إبراهيم: 37)
حيثُ سمّى إبراهيم –عليه السلام- منطقة مكة المكرمة بالبيت المحرَّم دلالة على وجود الكعبة المشرفة في ذلك الوقت الذي شهد ولادة إبنه إسماعيل، ومعلوم أنّ اسماعيل قد شارك والده في بناء البيت الحرام. بالتالي تسقط بالاستناد إلى النص القرآني فرضية بناء سيدنا إبراهيم للمسجد الأقصى، ويثبُت أن المسجد بني قبله عليه السلام، مرجّحاً بذلك فرضية بناء آدم – عليه السلام- للمسجد الأقصى.
وفي بحث للمحاضر في كلية الهندسة بجامعة النجاح الوطنية الدكتور هيثم الرطروط نشرته مجلة دراسات بيت المقدس في عددها الصادر عام 2005، اكتشف الدكتور الرطروط تشابهاً هندسياً تاماً ما بين بناء الكعبة المشرفة وبناء المسجد الأقصى المبارك، وباستخدام برامج هندسية ثلاثية الأبعاد وبإهمال المساحتين المختلفين للكعبة والمسجد الأقصى، وضَّح الرطروط بالخرائط والصور تطابقاً تاماً في زوايا البنائين الأربعة. مما يدعم بمزيد من الأدلة العملية فرضية بناء آدم عليه السلام للمسجدين وتحديد حدودهما، بوحي من الله عز وجل، وهي الحدود التي ما زال المسجد الأقصى يحتفظ بها حتى يومنا هذا بواقع 142-144 دونماً..
مقاربة هندسية ما بين بناء المسجد الأقصى المبارك بشكله الاصلي قبل التوسعة الأموية
وما بين بناء الكعبة المشرفة بشكلها الاصلي الذي بناه عبدالله بن الزبير نقلاً عن وصف النبي عليه الصلاة والسلام لشكل الكعبة في عهد إبراهيم عليه السلام.
ثانياً:: اليبوسيون والكنعانيون
كان العرب اليبوسيون أول من حفِظ التاريخ الإنساني سكنهم في القدس، فقديماً لم تكن أنواع الكتابة والتدوين قد اكتشفت بعد، وبقي الاعتماد في دراسة التاريخ على الأحافير كمصدر وحيد إلى أن اكتشفت الكتابة وابتدأ التأريخ الإنساني، وكان ذلك قبل أكثر من ستة آلاف عام حين هاجرت قبائل اليبوسيين من موطنهم الأصلي في الجزيرة العربية واستوطنوا مدينة القدس وما حولها، فعرفت أرض فلسطين بأرض اليبوسيين، الذين سُجّل لهم إنشاء عاصمة دولتهم في مدينة القدس، حيث كانت تعرف آنذاك باسم (يبوس) أو ( أورسالم).
وبالتزامن مع اليبوسيين هاجرت قبائل العرب الكنعانيين من جزيرة العرب إلى فلسطين، وهاجر الفينقيون الذين كانوا من بطون الكنعانيين العرب أيضاً، و تركز وجود هؤلاء في مناطق الشمال الفلسطينية، وأسسوا في فلسطين ما يزيد على مئتي مدينة كانت أبرزها (يبوس) القدس التابعة لليبوسيين، إضافة إلى (شكيم) نابلس، و (حبرون) الخليل.
كما عاش في فلسطين في ذات الفترة، شعب العموريين أو الأموريين، وهي قبائل عربية نتج عنها على مدى مئات السنين شعب الهكسوس الذي كان له دور بالغ الأهمية في مدينة القدس.
جدير بالإشارة أن أقوام (اليبوسيين) الذين حكموا القدس كانوا وثنيين غير مؤمنين، ومن هنا لا يأتي الاستشهاد بسكنهم لمدينة القدس من باب الفخر بأن العرب كانوا أول من سكن هذه المدينة، إنما يأتي في سياق دحض الافتراءات اليهودية التي تدّعي أنّ اليهود هم سكان القدس الأصليون، وأنهم أول من عمر المدينة المقدسة وسكنها، مزيّفين بذلك فترة تاريخية هامة تمثلت بهذه الشعوب العربية التي سبق وجودها في القدس الوجود اليهودي بأكثر من 1500 عام.
ثالثاً:: الهكسوسوالفراعنة
غزت قبائل الهكسوس مدينة القدس قرابة العام 1774 ق.م ، ضمن حملة كبيرة قامت بهذا هذه القبائل لغزو مصر والشام، واستطاع الهكسوس إجلاء حكم الفراعنة وبقايا اليبوسيين في القدس وما حولها، وأصبحوا حكامها.
ووفق المصادر التاريخية فإن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- عاصر الحكم الهكسوسي للقدس، ودخل المسجد الاقصى وبعض المدن المحيطة بالمدينة المقدسة.
وتحت حكم الهكسوس للمدينة ظهر سيدنا يعقوب وإسحاق –عليهما السلام- ، وظهر بنو إسرائيل جنوبي النقب (صحراء فلسطين) إلى أن ارتحلوا مع سيدنا يوسف إلى مصر كما ورد في القرآن الكريم. وعاش نسل يعقوب عليه السلام قرابة 150 عاماً في مصر تحت حكم الهكسوس الذين كانوا يعطون رعيتهم حرية دينية، إلى أن ضعف الهكسوس وهزموا على يد الفراعنة وطردوا من أرض مصر والشام، وأصبحت مدينة القدس تحت الحكم الفرعوني، الذي تميّز بالاضطهاد الديني والسياسي، وعمِد الفراعنة إلى صياغة حكم ذاتي لمدينة القدس موالي للدولة الفرعونية وحاكماً باسمها.
وإحقاقًا لسنة الله في الأرض، بدأت الدولة الفرعونية تضعف تدريجياً وتتقلص مساحتها، بفعل التناحر العرقي والتناحر على الملك داخل الدولة، وعادت أجيال اليبوسيين والكنعانيين إلى لملمة صفوفها من جديد، والاهتمام بزيادة تسليحهم وقوتهم إلى أن استطاعوا الاستئثار بحكم القدس وما حولها من جديد، والانخلاع تدريجياً من سلطة دولة الفراعنة.
تميّزت أجيال اليبوسيين والكنعانيين العرب في تلك الفترة بالشدة والغلظة، وقد أشار القرآن الكريم إليهم في معرض قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم: " قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ " ( المائدة : 22)
رابعاً:: بنو إسرائيل ومدينة القدس
بعث سيدنا موسى -عليه السلام- إلى بني اسرائيل في مصر ، خلال نهاية الحكم الفرعوني، وكانت الدولة الفرعونية تضطهد بني اسرائيل بشكل خاص، لأنها كانت ترى فيهم عملاء ومقرّبين لدولة الهكسوس التي حاربت الفراعنة واستطاعت إنهاء حكمهم لاكثر من 200 عام.
لم تكن دعوة نبي الله موسى عليه السلام، مقصورة على دعوة بني إسرائيل والمصريين إلى الايمان بالله عز وجل، فقد كان الإيمان موجوداً أصلاً في بني إسرائيل في ذاك الزمان ، وكان هناك جوهر آخر تدور حوله دعوة موسى-عليه السلام-، وهو الخروج ببني إسرائيل من مصرَ إلى الأرض المقدسة، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" ( المائدة: 21 )
ويظهر جوهر دعوة موسى – عليه السلام- في عديد من الآيات القرآنية التي حدثتنا عن قصة بني اسرائيل:
"حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" ( الأعراف: 105)
"وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الأعراف: 134)
"فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ" (17) (الشعراء: 16-17)
فأراد الله عز وجل لهذه الفئة التي كانت مؤمنة في ذلك الزمان الانعتاق من اضطهاد فرعون، والتوجه إلى الأرض المقدسة التي كان يحكمها آنذلك ( القوم الجبَّارين ) أو العمالقة كما سمّاهم التاريخ. ليحلّ بنو اسرائيل مكانهم، وفي لغة هذا العصر كان على بني اسرائيل تحرير الأرض المقدسة من احتلال القوم الجبارين، فهل فعلوا ذلك؟!
رغم الآيات المُعجزة والعظيمة التي أجراها الله على مرأى بني اسرائيل، من انشقاق البحر وإهلاك عدوهم، ورغم ما شهدوا من إعطائهم شريعة الألواح، والمنّ والسلوى، وتخويفهم بنتق الجبل فوقه، ثّ إماتتهم وإحيائهم من جديد، ورغم ما لاقوه من عنت وعذاب في سبيل الانعتاق من اضطهاد الفراعنة والنجاة بأنفسهم إلى أرض كتبها الله لهم، وأراد أن يمكِّن لهم فيها، إلا أن موقفهم كان برفض دخول الارض المقدسة خشية من القوم الجبَّارين، وعدم رغبة منهم في القتال، فقالوا لموسى عليه السلام: إذهب أنتَ وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، فجازاهم الله بالتيه في الأرض وتحريم الارض المقدسة عليهم، ويرجّح العلماء أن مكان التيه كان على الأغلب في صحراء سيناء، قريباً من مكان إهلاك الله لفرعون عند الفرع الأيسر للبحر الأحمر المواجه لسيناء.
وفي التيه يعاقب الله بحكمته جيل بني اسرائيل الذي اتصف بالكفر والعناد، ولم تردعه الآيات العظام التي أجراها الله أمام أعينهم عن استكبارهم، ليظهر فيهم جيل جديد فيه بعض من إيمان، ويستحق أن يجري الله على يده دخول الأرض المقدسة وعمارتها.
فوفق المصادر التاريخية فإن العام 1186 ق.م شهد قيادة "يوشع بن نون" لبني إسرائيل من سيناء نحو الأرض المقدسة، أما موسى -عليه السلام- فكان قد توفي قبل هذه المرحلة، وقاد فتاه "يوشع" بني إسرائيل إلى فلسطين ( الأرض المقدسة) عبر المنطقة الشرقية لنهر الأردن ، لكنهم لم يدخلوا مدينة القدس أبداً، وإنما عبَروا نهر الأردن إلى أريحا واستقروا هناك سنين طويلة. ويشير القرآن الكريم إلى هذا الدخول في قوله عز وجل : " وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ" ( البقرة : 58 ).
وبوفاة يوشع بن نون، تشتعل الخلافات الداخلية بين أسباط اليهود المقيمين في أريحا، ويضعف بنيانهم بضعف إيمانهم، فيتمكن منهم (العمالقة)، ويسلطون عليهم ألوان الاضطهاد والعذاب.
ويظهر في صفوف (العمالقة) ملك قوي يقال له (جالوت) الذي حكم الأرض المقدسة ( فلسطين) وكان مقرّه في القدس، وفق المصادر اليهودية والتاريخية، مما يدعّم الرأي القائل بأن اليهود استقروا فعلاً في أريحا ولم تطأ أقدامهم القدس أبداً.
وينظر بنو اسرائيل بعين الغبطة للعمالقة على ملكهم العظيم، ويطلبون من نبيّهم أن ينصّب عليهم ملكاً عظيماً كجالوت، يعيد إليهم مجدهم ورفعتهم، فيجيبهم النبي سائلاً إياهم عن طاعتهم للملك الجديد؟ فيجيبون بالتأكيد، ويقولون كيف لنا ألا نطيعه ونحن اليوم أذلّ الناس، وهو من سينشلنا من ذلنا إلى عزة ورفعة؟!
وما إن يختار لهم داوود -عليه السلام- الملك (طالوت) حتى ينقلبون عليه، ويستنكفوا عن طاعته وحكمه، وتفصّل سورة البقرة قصة المعركة التي وقعت قرب أريحا –على الراجح من أقوال العلماء- بين العمالقة وبني اسرائيل، والتي شهدت عصيان بني اسرائيل لقائدهم إلا قليلاً منهم، وتنتهي المعركة بقتل النبي داوود –عليه السلام- لقائد العمالقة، ممهداً بذلك لأول دخول يهودي في التاريخ إلى مدينة القدس.
وبهذا النصر أيضاً يؤول حكم الأرض المقدسة إلى بني اسرائيل لأول مرة وذلك قرابة العام 995 ق.م، ويتوجه نبي الله داوود –عليه السلام- إلى القدس ويقيم فيها مملكته التي تشير المصادر التاريخية انها كانت في قرية سلوان قرب عين الماء على الأطراف الخارجية لمدينة القدس القديمة.
ويدوم حكم بني اسرائيل للقدس سبعون عاماً أو ثمانون، تداولها النبي سليمان من بعد داوود –عليهما السلام- ، وحصل خلالها ما ذكره النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- من تجديد سليمان لبناء المسجد الأقصى المبارك.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ".
وتجدر الإشارة أن هذا البناء لسليمان، كان بناء تجديد وإعادة إعمار، وأن الباني الأول للمسجد الأقصى هو النبي آدم –عليه السلام- بوحي من الله، كما ورد سابقاً..
خامساً:: السبي البابلي والفرس
بعد وفاة سليمان عليه السلام ضعفت الدولة وتفككت إلى مملكتين متصارعتين؛ مملكة شمالية (إسرائيل) عاصمتها شكيم، ومملكة جنوبية (يهوذا) وعاصمتها أورشاليم.
وكان اليهود في حينها قد انحرفوا بعيداً عن عقيدتهم، وساد الظلم وأشكال المفاسد دولتيهم، وأخذ الصراع ما بين الدولتين يستنزف بقية ما تبقى من أسباب القوة، وبعد مناوشات طويلة تمكَّن الأشوريون من تدمير مملكة الشمال في القرن السابع قبل الميلاد، وصمدت مملكة الجنوب قليلاً ثم ما لبثت أن سقطت في يد البابليين في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ، لتصبح مدينة القدس تحت حكم البابليين الذين نفوا اليهود خارج المدينة، واتخذوهم سبايا نحو بابل، ودمّروا المسجد الاقصى الذي أعاد سليمان بناءه تدميراً كاملاً وفق المصادر التوراتية، ويشير كتاب التلمود اليهودي أن السبي البابلي كان عقاباً لليهود على "كثرة ذنوب بني اسرائيل وتفاقمها حتى فاقت حدود ما يطيقه الإله الأعظم".
ثم ما لبثت دولة فارس أن غزت دولة البابليين، وبسطت سيطرتها على مملكتها ومن بينها مدينة القدس، وسمح الملك (قورش) الفارسي لليهود الموجودين في بابل بالعودة إلى القدس إن شاؤوا، فرجعت أعداد قليلة منهم وفقاً للمصادر التوراتية، أما الغالبية العظمى فلم تهاجر، لأنها فضلت البقاء في بابل عاصمة الرخاء الاقتصادي والثروات في ذلك الزمان، تاركين مدينتهم المقدسة وراء أطماع المال.
تشير المصادر التوراتية إلى النخبة القليلة من اليهود الذين عادوا إلى القدس، وتقول أنهم عكفوا هناك على إعادة بناء معبد سليمان الذي دمّره البابليون على يد (نبوخذ نصر) إبَّان السبي، ويُشار إلى أن الفارسيين كانوا في ذلك الزمان متسامحين مع اليهود بالمقارنة مع البابليين ، وسمحوا لهم بأداء طقوسهم الدينية في القدس، مُفردين لهم ثلاثين كيلومتراً من مساحة المدينة، ليحكموها حكماً ذاتياً يدين بالولاء لدولة فارس، مقابل السماح لليهود بالعبادة.
سادساً:: اليونان ( الاغريق ) ومدينة القدس
بقيت القدس تحت الحكم الفارسي حتى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد ، حين استطاع الاسكندر المقدوني انتزاع المدينة المقدسة من الفرس مع أجزاءٍ واسعة من مصر والشام، فبسط اليونان نفوذهم على مدينة القدس بعد ان اجتاحوها بجيوشهم ودمّروا أجزاءً كبيرة منها.
اصطبغت المدينة المقدسة بصبغة الإغريق، وكانوا قوماً يعبدون الأوثان، فحاولوا السيطرة على المسجد الاقصى والسماح بعبادة الأوثان في داخله.
لكن الاسكندر المقدوني توفي فجأة، مخلفاً وراءه تركة ثقيلة، فاقتسم قادته الأرض المقدسة من بعده، وأقاموا فيها معبداً وثنياً لهم، وبينما عاشوا في القدس قرابة المئة والعشرين عاماً يعبدون الأوثان، فإن اليهود كانوا يعبدون الله على حرف.
واستغل العرب الأنباط تفكك حكم اليونان بعد وفاة الاسكندر، فقاموا بغزو الأجزاء الجنوبية من فلسطين، واحتلوها بما فيها مدينة القدس التي بقيت في قبضتهم مئة عامٍ تقريباً، لكنها متقطعة بفترات حكم إغريقية كانت تجيء وتذهب.
سابعاً:: الرومان وظهور المسيح عليه السلام
وفي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، بدأت دولة الرومان في التحرك وتكثيف حملاتها الهادفة لتوسيع مملكة الروم، فبدأوا بالاستيلاء على ممالِك الاغريق مملكة تلو الأخرى، وفي العام 63 ق.م استطاعوا الاستيلاء على منطقة سورية وفلسطين، فأصبحت القدس خاضعة للدولة الرومانية، فسارع اليهود لإعطاء الولاء لروما مقابل أن أعطاهم الرومان حكماً ذاتياً محدوداً في مدينة القدس. هذا الحكم المحدود والذي لم يغيّر من نظرة اليهود إلى "الاحتلال الروماني" ، أدّى في كثير من الأحيان إلى اشتعال الثورات والاضطرابات الداخلية، التي أذكاها اليهود بتحريض من الأحبار ورجال الدين، حيث كانت لهم في تلك الفترة زعامة روحية كبيرة، وسطوة على المسجد الأقصى في سدانته ورعاية شؤونه.
كثيراً ما كان الرومان يقمعون ثورات اليهود بقوة السلاح والنار، إلا أنه وفي العام 43 ق.م ارتأى الرومان وضع شخصية مثيرة للجدل وصفت بأنها من دهاة السياسة، في منصب والي القدس، وكانت هذه الشخصية هي الملك ( هيرودس) وهو من أصل روماني.. ادعى أنّ أمه رومانية وأبوه يهودي، وخطب ودّ اليهود في المدينة المقدسة عن طريق اعتناقه لليهودية ومحاولات التقرب لليهود.
وعلى الرغم من أن غالبية اليهود لم يعترفوا بهيرودس، نظراً لأنهم يعتبرون اليهودية موروثة من جانب الأم، إلا أن هيرودس استطاع اخماد الثورات في المدينة وتحييد اليهود قليلاً، وطغت أجواء الصراع ما بين الرومان والفرس، وتناوب المدينة المقدسة ما بين المملكتين على أية أجواء صراع داخلي بين اليهود والرومان، وإن كانت بعض المصادر التاريخية تشير إلى خيانات يهودية متكررة كانت تتم لصالح الفرس ضد دولة الروم.
قام هيرودس خلال حكمه، ببناء قلعة داوود الموجودة حالياً في مدينة القدس قرب باب الخليل. كما قام بإعادة تجديد المسجد الاقصى، إلا أن اليهود لم يعترفوا له بهذا البناء، وبقيت المصادر اليهودية إلى الآن تقول أن (المعبد) لم يُبني سوى مرّتين متجاهلين بناء هيردوس لأنه لم يكن رجلاً يهودياً صافياً.
تطرقنا في معرض الحديث عن القدس تحت الحكم اليوناني، أن اليهود كانوا قد وصلوا إلى مرحلة شديدة الانحراف عن الدين، وازداد الأمر سوءاً مع مرور السنين، حتى وصل الأمر بهم إلى الحضيض، وظهر في ذلك الوقت بيتٌ يهودي فريد، من البيوت القليلة التي ما زالت تعرف الدين الحقّ وتعمل به، كان هذا بيت ( آل عمران ) الذين اصطفاهم الله عز وجل، وجعل من نسلهم مريم –عليها السلام- وجعل من نسلها الطاهر النبي عيسى وابنَ خالته النبي يحيى –عليهما السلام-.
وفي تلك الفترة اجتمع لبني اسرائيل ثلاثة أنبياء دفعة واحدة، هم زكريا وعيسى ويحيى –عليهم السلام-، ليؤشر لنا ذلك عن مدى الانحراف الديني والانحطاط الإنساني الذي آل إليه بنو إسرائيل في تلك الحقبة.
أمّا المسجد الأقصى فقد فاض الطابع المادّي لليهود ليصل إلى أماكن العبادة والمقدسات، فحوّله اليهود إلى سوقٍ للبيع والشراء، ومكانٍ لتداول الربا.
ولعل ظهور الأنبياء الثلاثة كان بمثابة الإنذار الأخير الذي تلقاه بنو اسرائيل، قبل أن تجري عليهم سنة الله في استبدال من أبى وأفسد من الأمم.
لكنّ اليهود لم يقتنصوا فرصتهم الأخيرة، بل أمعنوا في الافساد والاستكبار، فقتلوا زكريا ويحيى، وتآمروا مع (بطليموس) قائد الرومان وحرّضوه من أجل قتل المسيح عيسى عليه السلام وصلبه، لولا أن نجّاه الله منهم، ولم يرحموا من تبقى من أتباع المسيح فقتّلوهم وشرّدوهم خارج البلاد.
وبرَفع المسيح إلى السماء في العام 33 م وفق المصادر التاريخية، سادت الاضطرابات وعادت الثورات إلى القدس من جديد، وبدأ اليهود في الاشتغال بقطاعة الطرق للقوافل الرومانية، وانتهجوا تخريب تجارتهم وبيوعهم، ما حدا الدولة الرومانية إلى وضع حدّ لهذا التمرد في العام السبعين للميلاد، فيما سمي بالثورة (المكابية).
فحاصر القائد (تيطس) الروماني مدينة القدس، ثم سقطت في يد جيشه ليستبيح بيوتها ويدمّر جميع معالمها بما في ذلك المسجد الأقصى، حتى قيل إنه لم يترك في المدينة حجراً على حجر، وأجلى الرومانُ من بقي حياً من اليهود وأبعدوهم عن مدينة القدس مسافاتِ قرىً وجبالٍ شاسعة، وبقيَت القدس مدينة خراباً فارغة حتى العام 135 للميلاد.
حيث تذكر المصادر التاريخية أن الإمبراطور الروماني (هادريان) أمر بحرث المدينة المقدسة، وإقامة مدينة رومانية جديدة على أنقاضها، سميت في ذلك الحين باسم (إيليا كابيتولينا)، وكانت منطقة المسجد الأقصى خارج حدود هذه المدينة وخارج أسوارها، كما تشير الخرائط الرومانية القديمة، كالموجودة في مدينة مأدبا الأردنية مرسومةً بالفسيفساء، ويمكن الرجوع إليها في كتاب تاريخ فلسطين المصور، وبقي الأقصى أرضاً خواءً تتوسطها صخرة مرتفعة، مهملة كما حولها من مساحات.
ثامناً:: البيزنطة
كما هو معلوم فإن الدولة الرومانية كانت في بدايات نشأتها تتخذ من الوثنية ديناً ومذهباً، وبقيت كذلك حتى قرابة العام 300 للميلاد، حين أعلن الامبراطور الروماني ( قستنطين) وأمه الملكة الرومانية (هيلانا) إعتقناقهما للديانة النصرانية، على مذهب (بولس أو شاول) الذي كان من أدخل الإيمان بالطبيعة الإلهية للمسيح داخل الديانة النصرانية.
هذا التحول شكل سابقة خطيرة في تاريخ دولة الرومان، وجعل من الديانة النصرانية ديانة رسمية للدولة، وانقسمت على إثر ذلك إلى إمبراطورية بيزنطية في الشرق، وأخرى رومانية في الغرب، وبطبيعة الحال أصبحت القدس تتبع لامبراطورية بيزنطة الشرقية.
إعلان الدولة النصرانية في القدس، ساهم كثيراً في زيادة الاهتمام البيزنطي بها، فبنى الامبراطور النصراني (قستنطين) العديد من الأبنية والمرافق في المدينة، لعل أشهرها هو كنيسة القيامة، التي اعتقدت الملكة هيلانة أنها بنتها في مكان صلب المسيح.
وبسبب العداء القائم بين اليهود والنصارى، لتحميل الأخيرين مسؤولية قتل المسيح وصلبه لليهود ونسلهم أبداً، فإن اليهود كانوا ما زالوا منفيين خارج المدينة المقدسة وبعيداً عنها، وسمح لهم على فترات متباينة من الحكم الروماني المتأخر أن يزوروا القدس لقاء رسوم تدفع للدولة البيزنطية. وبقي المسجد الأقصى في تلك الحقبة الزمنية خرِباً وخالياً.
تاسعاً:: الفرس من جديد
ولد النبي عليه الصلاة والسلام في العام 571 للميلاد، وبعث رسولاً بعد أربعين سنة، ليشهدَ حادثة هزيمة الرومان على يد الفرس، واحتلال فارس لمدينة القدس من جديد، وتنزَّلت عليه حينها آيات مطلع سورة الروم : " الم (1)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) "
كانت هذه الحادثة بعد أربعة أعوام من بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وشهدت تحالفاً ما بين اليهود والفرس ضد دولة الرومان النصرانية في القدس وما حولها، فدخل الفرس المدينة المقدسة وأعملوا فيها قتلاً وتدميراً، فتهدمت كنيسة القيامة، ونُهبت ما فيها من كنوز، وقتل ما يزيد على 60 ألف نصراني.
كان اليهود يتحالفهم مع الفرس ينتقمون ممن يرونهم أصحاب العقيدة المحرَّفة (النصاري) إضافة إلى رغبتهم في التملق لدولة فارس، علَّها تعطيهم حكماً ذاتياً في القدس، لكنّ هذا لم يحدث.
وتحققت نبوءة القرآن الكريم في سورة الروم، وعاد الرومان للسيطرة على القدس، بعد هزيمة الفرس، وتجدر الإشارة إلى أنّ اليهود الذين خُذلوا من الفرس عاودوا التحالف مع الرومان ضد الفرس، مقابل تطمينات لهم بالحماية والتمكين، وما إن انتصر الرومان حتى نقض قائدهم هرقل وعود الرومان لليهود، لأن النصارى لم يكونوا قد نسوا ما ارتكبه اليهود من مجازر بحقهم وحق مقدساتهم قبل ثماني سنوات، وعاد اليهود إلى الاضطهاد من جديد جزاءً لهم على خيانتهم العظمى في حق دولة الروم، وتبدّل ولاءاتهم، فقتل هرقل بعضاً منهم ونفى الغالبية بعيداً عن القدس.
عاشراً:: الإسراء والمعراج والفتح الأول لبيت المقدس
عند الحديث عن فتح مدينة القدس، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وفتحه العمريّ الميمون، لكنّ هذا الفتح الذي تجلَّى في العام الخامس عشر للهجرة – في غالب الروايات- كانت له مقدّمات جليلة، مهّد لها الله عز وجل وأجراها بمعجزاته تارة، وعلى يد نبيّه تارة أخرى، وعلى يد الصحابة الكرام من بعده، ليأتي الفتح العمري كنتاج وقطاف لثمرة الجهود الاسلامية لفتح بيت المقدس، الذي كانت بوصلةُ المسلمين ومجتمع النبوة مركزةًً صوبه بعد فتح مكة المكرمة.
شاءت حكمة الباري عزّ وجل، أن يجعل أول فتح ووراثة للمسلمين لبيت المقدس، يأتي عن طرق معجزة ربّانية بيّنة وجليّة بجلاء أحقية المؤمنين المسلمين بهذا المكان المقدس الطاهر! وشاء سبحانه أن يفتتح هذه الوراثة الأبدية نبي المسلمين محمد –عليه الصلاة والسلام- لتكون القدس منارة لأصحابه والمؤمنين به من بعده.
وبعد سنوات عصيبة مرَّت على النبي والمؤمنين من كفر وتكذيب وأذيّة، تركزت في عام الحزن، بوفاة آخر الحصون خديجة رضي الله عنها، وأبوطالب، أذِن الله لنبيّه الكريم أن ينتقل من ضيق الدنيا وكدرها إلى سعة السماوات وأنسها، في ليلة الإسراء والمعراج العظيمة.
ومن على ثرى القدس الطاهرة، ومن على أقدس بقاعها (المسجد الأقصى)، دارت أعظم عملية وراثة وتسليم للراية من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، إلى النبي محمد رسول الاسلام والدين الخالد، لترتبط وراثة المسلمين للمدينة المقدسة، بوراثة الإسلام وأتباع محمد عليه السلام لراية التوحيد حتى قيام الساعة، ويبقى هذا الارتباط الإسلامي بالقدس وثيقاً أبدياً لا يزول إلا بزوال الدين- حاشى أن يزول - !

الجمعة، 15 مايو 2009


لطريق إلى تحرير القدس وفلسطين

[15:05مكة المكرمة ] [14/05/2009]


مدينة القدس تستصرخ المسلمين لإنقاذها من التهويد








رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه..

يقول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5)﴾ (القصص)، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15)﴾ (الأنفال).



وسط هذه الأجواء الملبَّدة بالغيوم حول مستقبل قضية فلسطين، ووسط جولات المساومات، التي وصلت إلى أكثر من 300 جولة مفاوضات تنذر بأن هناك أمرًا بُيِّت بليل لوضع الفلسطينيين والعرب والمسلمين أمام أمر واقع يقر للعدو الغاصب بمطالبه في فلسطين والقدس!! ويتنازل عن ثوابت قطعية في الحقوق الفلسطينية، ووسط قنابل دخان حول رفض الحكومة العنصرية لحل الدولتين، ثم يكون الوصول إلى حل هزيل، يتم تصوير الأمر فيه وكأن العدو قدَّم تنازلاتٍ مؤلمةً بقبوله لحل الدولتين، وكأن العالم قد مارس ضغوطًا هائلة على ليبرمان ونتنانياهو لقبول ما رفضوه من قبل.



وسط هذه الأنواء والحصار الشديد للمقاومة، والتكالب الدولي لنزع سلاحها في غزة ولبنان، بعد نجاح نزع أسلحتها في الضفة الغربية؛ يحتاج العرب والمسلمون في هذه المرحلة إلى تحديد مسار واضح من أجل تحقيق الهدف الكبير لتحرير القدس وتحرير فلسطين، واسترداد المسجد الأقصى، وبناء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف.



وأول ما يجب علينا هو: إحياء الذاكرة الوطنية القومية الإسلامية، واسترجاع تجارب الصمود والمقاومة والنجاح في تاريخنا الممتد؛ حيث نجح صلاح الدين الأيوبي، والسلطان قلاوون، والظاهر بيبرس في استعادة ما سلبه الصليبيون على مدار مائتي عام، فلسطين وساحل البحر المتوسط، وفكَّكوا ممالك الفرنجة التي كانت أوسع حملة استعمارية في القرون الوسطى عبر عملية تمت بمنهجية سليمة شملت:

- إحياء الأمة وبث روح الجهاد والتضحية.

- تصحيح أسلوب الحكم وإشراك العلماء والأمة وإحياء الشورى.

- بناء وحدة الأمة، خاصة في مصر والشام والعراق.

- بناء جيش قوي.

- مواجهة الطابور الخامس من المثبطين والمخذِّلين، والرد على شبهاتهم.



وثاني ما يجب فعله هو: وقف مسلسل التنازلات والاستسلام لشروط العدو، والانهيارات المتتالية التي أدت إلى تمدد المشروع العنصري الاستيطاني، وسعيه إلى بسط هيمنته وسيطرته على كل المنطقة العربية والإسلامية.



ثالثًا: دعم صمود الشعب الفلسطيني والإبقاء على وحدته الوطنية والقومية، ولمِّ شمل الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1948م والقدس والضفة وغزة، وكذلك في الشتات بين مخيمات اللاجئين، وفي أوروبا وأمريكا، والإصرار على حق العودة لكل فلسطيني إلى أرضه ووطنه ودياره.



رابعًا: إيقاظ الوعي في الأمة العربية والإسلامية بأهمية وخطورة قضية فلسطين، وأنها ليست مجرد آمال ليهود تعرضوا للذبح والحرق في محارق النازية وأحلامًا في وطن قومي، بل هو مشروع استيطاني له وظيفة استعمارية، هدفها هو قطع الطريق على الوحدة العربية والإسلامية، وشلِّ قدرات الأمة العربية في بناء نهضة شاملة واستنزاف طاقاتها في صراع ممتد؛ وذلك عبر التمكين لنظم استبدادية وديكتاتورية فاسدة، تعمل على الإبقاء على ثلاثية التخلف والفساد والاستبداد التي تحطِّم مناعة الأمة وتحاصر كل محاولات النهضة والخروج من النفق المظلم.



خامسًا: استرداد إرادة الشعوب العربية والإسلامية، وبناء مجتمعات قوية قادرة على استعادة الوعي، ومزج الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على رفع شأن الوطن الخاص، جنبًا إلى جنب مع العمل على الوحدة العربية والسعي الدءوب إلى إحياء الكيان الدولي للأمة الإسلامية.



ولن يتم ذلك إلا بإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، وإحياء قيم الإيمان الحق، والتوكل على الله، والإعداد التام لكل عناصر القوة من علم وتخطيط وإدارة وتنمية شاملة، فضلاً عن العمل الجهادي والتضحية والصبر، والبعد عن كل ما يثير الشقاق والفرقة بين الأمة، ويثبط العزائم ويزرع اليأس بين الناس.



سادسًا: السعي إلى كسب رأي عام عالمي شعبي لصالح القضية الفلسطينية، عَبْر شرح أبعاد القضية لشعوب العالم، والعمل مع كافة منظمات المجتمع المدني في سائر الدول، والعمل على بناء قاعدة إعلامية قادرة على مواجهة الإعلام المضاد.



ويتواكب- مع ذلك كله- الضغط بكل الوسائل المشروعة على الحكومات الأوربية والأمريكية والمنظمات الدولية؛ لوقف دعمها للعدو الصهيوني، وإنهاء صراعها الممتد لقرون مع العالم الإسلامي، وإنهاء الحقبة الاستعمارية التي ما زالت ظلالها تخيم على علاقة أوربا وأمريكا بالعالم الإسلامي.



وبناء نظرية إسلامية للحوار مع الغرب تقوم على الاحترام المتبادل، والسعي لإحياء القيم المشتركة بين الأديان جميعًا، والعمل من أجل تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة، وحل المشكلات بالحوار وليس بالعنف والحروب.



لقد مرَّ على هذا الصراع مع الاستعمار الغربي مائة عام، نجح خلاله الغرب- وفق خطط مرسومة بدقة- في زرع هذا الكيان الغاصب الاستيطاني في قلب الأمة العربية والإسلامية.. وأين؟ في الأرض المقدسة!! أرض الرباط، في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.



نجح الاستعمار في إنهاء الخلافة الإسلامية والقضاء على سلطنة آل عثمان آخر رمز الوحدة الإسلامية، ثم نجح في تمزيق الأرض العربية إلى 22 دولة أو دويلة، وزرع الخلافات والنزاعات بينها فصارت تتحارب على الحدود والثروات، وماتت الجامعة العربية بسبب الخلافات!!.



بل نجح العدو في زرع الشقاق في الصف الفلسطيني نفسه، وأصبح البعض يحارب المقاومة وينزع أسلحتها؛ إرضاءً للعدو، ورضوخًا لضغوطه، وسعيًا وراء سراب المفاوضات، وخشيةً على نفسه من القتل والذبح، كما حدث مع عرفات رحمه الله.



إلا أن العدو لم ينجح ولن ينجح في إنهاء جذوة المقاومة الصُّلبة، ولم يخدع الشعب الفلسطيني الذي ما زال متمسكًا بثوابته الوطنية وحقوقه المشروعة؛ وفي مقدمتها حق العودة، ولم ينجح في خداع شعوب الأمة العربية والإسلامية، التي ما زالت ترفض التطبيع وتتمسك بخيار المقاومة لإنهاء الاحتلال.



- علينا اليوم واجبات ثقيلة وأعباء جسيمة لإيقاظ وعي الأمة، ولتقوية وحدتها وتنمية قدراتها واستعادة إرادتها.

- وعلينا اليوم واجبات ضخمة بدعم صمود الشعب الفلسطيني وخاصة حركات المقاومة.

- ولا بد أن ندرك أن هذا صراع ممتد، وسيتم تحرير الأرض الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى بإذن الله عبر مراحل متتالية.

- وأن ندرك أن صراعنا مع العدو هو صراع على كل الجبهات وفي كل الميادين، وليس مجرد معركة هنا أو هناك، ولن يحسم في ميدان القتال فقط، بل إن ميدان القتال الحربي هو آخر ميادين حسم ذلك الصراع.

- ولا بد أن نتسلح بالأمل، وأن نورث الأجيال تلو الأجيال الوعي بأبعاد هذا الصراع الممتد عبر الزمن؛ لتتراكم الخبرات حتى يتحقق النصر في نهاية المطاف بإذن الله تعالى..



﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل..

والله أكبر ولله الحمد.

مشاهد مقدسية من زمن الحروب الصليبية 1ـ2

المشهد الأول: ذات صباح غائم من أيام شهر نوفمبر 1095م، وفي حقل فسيح بين التلال في أوفريني Auvregne خارج كليرمون Clermont في الجنوب الفرنسي، وقف البابا أوربان الثاني Urban II ، الفرنسي الأصل، يلقي خطبة حماسية كانت بمثابة "إعلان حرب" ضد المسلمين(1 ).
وداعبت كلمات البابا التي جمعت بين التهم الكاذبة والدعاية الظالمة ضد المسلمين، وبين التعصب النزق والتحريض الحماسي ضدهم، أوتار الطمع والعنف، والتدين الظاهري، والطموح السياسي والعسكري في نفوس الحاضرين الذين كانوا مزيجا من الفرسان والنبلاء الإقطاعيين.

وكانت الخطبة والاستجابة الحماسية من جانب الحاضرين نوعًا من المسرحيات التي تم توزيع الأدوار فيها مسبقا؛ إذ تمثلت هذه الاستجابة من جانب الحاضرين في صيحة حماسية بعبارة "الرب يريدها... الرب يريدها"(2 ). وهكذا بدأت الحروب الصليبية...

يوم المذبحة

المشهد الثاني: في يوم قائظ من شهر يوليو 1099م سقطت مدينة القدس ودخلها الفرنج الصليبيون، بعد حصار استمر خمسة أسابيع، وأعقبت سقوط المدينة المقدسة مذبحة رهيبة، وأبيحت المدينة وسكانها على مدى ثلاثة أيام للنهب، والسلب، والقتل، وبقيت الجثث مطروحة في أرجائها وشوارعها عدة أيام...

وفي هذا الجو الموحش الكئيب، الذي يلفه الدخان والغبار، وتغلفه الروائح الكريهة المنبعثة من المنازل المحترقة، والجثث العفنة، اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة لأداء صلاة الشكر، وترددت عبارة "نشكرك يا رب" في أرجاء الكنيسة العتيقة(3 )، وهكذا، بدأ الوجود الصليبي على الأرض العربية...

المشهد الثالث: في يوم من أيام شهر أكتوبر سنة 1187م (27 رجب سنة 538 هجرية)، صلاح الدين الأيوبي يدخل القدس المحررة على رأس قواته بعد أن ظلت في الأسر بضعا وثمانين سنة.

وفي هذه المرة كان المشهد إنسانيا يناقض المشهد الوحشي الهمجي الذي صاحب الغزو الفرنجى الصليبي للمدينة، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة زمنا طويلا(4 ).

وهكذا بدأت نهاية الوجود الصليبي على الأرض العربية...

كانت هذه المشاهد الثلاثة التي دارت حولها قصة القدس في عصر الحروب الصليبية؛ بيد أن المشهد الأخير وحده هو المشهد الذي تهتم به هذه الدراسة؛ إذ إن ملحمة التحرير التي قادها صلاح الدين الأيوبي بدأت منذ اللحظات الدامية التي سقطت فيها المدينة أمام جحافل الفرنج الظالمة في السنة الأخيرة من القرن الحادي عشر الميلادي حقا، كما أن القدس كانت رمزا وعنوانا للوجود الصليبي "مملكة بيت المقدس" حقا، ولكن "صلاح الدين" كان رمزا وعنوانا على المقاومة والجهاد الإسلامي ضد العدوان، وكان هو الذي كرَّس حياته لتحرير القدس على نحو ما سنرى في هذه الدراسة.

مسببات النصر والهزيمة

لم يكن انتصار الصليبيين في الحملة الصليبية الأولى واستيلاؤهم على بيت المقدس تعبيرا عن توازن القوى الحقيقي بينهم وبين المسلمين؛ وإنما كان نتيجة لحال من التشرذم السياسي وميراث الشك والمرارة بين حكام المنطقة العربية، الذين أعمتهم الأنانية السياسية وقصور النظر، وخمول الهمة، عن رؤية مصالح الأمة.

من ناحية أخرى كانت القوتان الأساسيتان في المنطقة (الخلافة العباسية السنية في بغداد والخلافة الفاطمية الشيعية في القاهرة) تتنازعان النفوذ والسلطان وتشتركان في مظاهر الوهن والضعف، وكانت الدويلات والإمارات القزمية في بلاد الشام تشكل فسيفساء سياسية لا يوازيها إلا الفسيفساء العرقية والدينية والمذهبية في هذه البلاد.

وفي تقديري أنه لا يمكن تفسير نجاح الحملة الصليبية الأولى سوى في ضوء هذه الاعتبارات المتعلقة بالمنطقة العربية نفسها، فقد كان الصليبيون أقل عددا وعدة، وأدنى في مستواهم الحضاري وأساليبهم العسكرية من المسلمين، ولكنهم انتصروا.

ولم يكن هذا الانتصار ناتجًا عن تدخل الرب والقديسين إلى جانب الصليبيين، كما زعم مؤرخو الحملة الصليبية الأولى الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة الكاثوليك بطبيعة الحال.

لقد كان نجاح الصليبيين في إقامة مملكة وثلاث إمارات على الأرض العربية في فلسطين وبلاد الشام صدمة نفسية لسكان المنطقة العربية الذين ظنوا في البداية أن الصليبيين قوم من المرتزقة العاملين في خدمة الإمبراطورية البيزنطية؛ ولكن ما جرى في سنة 1099م وما بعدها جعلهم يدركون أن الصليبيين جاءوا إلى بلادهم بقصد البقاء، وبرزت أمامهم حقائق جديدة مؤلمة على المستوى السياسي والعسكري(5 ).

وكان لا بد أن يتصاعد رد الفعل من جانب المسلمين، ففي الشمال كان الأتراك السلاجقة يشنون هجماتهم العنيفة على الفرنج الصليبيين، كما أسروا الأمير بوهيموند حاكم أنطاكية الصليبي، وبلدوين كونت الرها، وجوسلين، وأنزلوا عدة هزائم فادحة بالصليبيين.

وفى الجنوب، شن المصريون الهجمات من قاعدتهم في عسقلان بفلسطين، وأنزلوا بعض الهزائم بالصليبيين في سنوات 1101م ، 1102م ، 1105م؛ ولكنهم توقفوا بعد هذا التاريخ بسبب مشكلاتهم الداخلية(6 )، وفي سنة 548 هجرية / 1153م تمكن الصليبيون من الاستيلاء على عسقلان التي كانت آخر المعاقل المصرية في فلسطين.

ضعف الدولة الفاطمية

كانت الدولة الفاطمية قد وصلت إلى حال من الضعف الذي أغرى القوى المجاورة من المسلمين على السواء بمحاولة الاستيلاء على تركة "الرجل المريض" الراقد على ضفاف النيل، ولم يكن هذا "الرجل المريض" سوى الدولة الفاطمية التي لم يبق لها من مجدها القديم سوى ظل باهت وذكريات غابرة.

وهكذا بدأ السباق بين نور الدين محمود (الذي خلف والده عماد الدين زنكي الذي نجح في تحرير الرها سنة 1144م) وأمالريك الأول ملك بيت المقدس الصليبي (1163م- 1174م)(7 ) الذي عرفته المصادر التاريخية العربية باسم "عموري" للفوز بحكم مصر.

ثم جاءت الفرصة تسعى للطرفين اللذين لم يتردد أي منهما في الإمساك بها، فقد اندلع الصراع على كرسي الوزارة الفاطمية الذي كان من يجلس عليه هو صاحب السلطة الفعلية(8 )، وفي خضم هذا الصراع، سعى شاور إلى طلب المساعدة من نور الدين محمود.

ومن ناحية أخرى؛ قرر عموري انتهاز الفرصة للزحف على مصر، وجاء الجيش الإسلامي بقيادة "أسد الدين شيركوه"، وكان معه في الجيش ضابط شاب في السابعة والعشرين من عمره؛ هو صلاح الدين الأيوبي الذي ظهر اسمه للمرة الأولى على المسرح السياسي في المنطقة العربية ليصير في غضون سنوات قليلة شخصية ملء القلب والعين واللاعب الرئيسي على هذا المسرح، والمحرك الأول للأحداث في المنطقة.

وبعد عدة تقلبات درامية في الأحداث، انتهت بمصرع كل من ضرغام وشاور المتنافسين على كرسي الوزارة، وخروج الصليبيين من السباق خاسرين بعد ست جولات(9)، تولى أسد الدين شيركوه الوزارة الفاطمية وحمل لقب "الملك المنصور أمير الجيوش"(10 )؛ ولكنه لم يلبث أن توفي بعد حوالي تسعة أسابيع في يوم 22 جمادى الآخرة سنة 564 هجرية / 1169م.

ولم يتردد الخليفة العاضد الفاطمي، وآخر سلالته في حكم مصر، واختار القائد الشاب صلاح الدين وزيرًا له دون أن يلتفت إلى مطالب الأمراء الكبار أو مطالبهم.... وبدأ نجم صلاح الدين يتألق في سماء السياسة بالمنطقة العربية.

إستراتيجية التحرير

هذه الدراسة لا تهدف إلى عرض سيرة صلاح الدين الأيوبي؛ وإنما تهدف إلى متابعة جهوده السياسية والعسكرية التي شكلت إستراتيجيته لتحرير القدس من الفرنج الصليبيين، وبدأ صلاح الدين مسيرته بتوطيد سلطته ومركزه السياسي في مصر وعيناه مفتوحتان على الجبهة الداخلية في القاهرة من ناحية، وعلى نور الدين محمود صاحب السيادة الشرعية وما يمكن أن تنتهي إليه الأمور بينهما من ناحية أخرى.

ففي الداخل كانت تواجهه مشكلة سياسية / عسكرية؛ لأن الجيش الفاطمي الذي عاش زمنا طويلا في أجواء التآمر، والتآمر المضاد، بين المتنافسين على السلطة لم يكن يدين بالولاء للخليفة العاضد الفاطمي نفسه.

وجاءت الفرصة لتدمير الجيش الفاطمي تسعى إلى صلاح الدين عندما قام أحد الخصيان في القصر الفاطمي اسمه، "مؤتمن الخلافة جوهر"، بالتآمر مع الفرنج الصليبيين لغزو مصر والقضاء على صلاح الدين، وتم اكتشاف المؤامرة، وأعدم مدبروها، ثم أطبقت قوات صلاح الدين على الجنود السود الذين كانوا يشكلون قوات المشاة في الجيش الفاطمي، وجرت مذبحة رهيبة على مدى يومين قضت عليهم تماما(11 ).

كانت النتيجة السياسية المباشرة لهذه الحادثة أن ازداد نفوذ صلاح الدين وسطوته في مقابل تقلص نفوذ الخليفة العاضد الفاطمي، وأخذ صلاح الدين يحكم قبضته على الأمور الداخلية تماما؛ فعيَّن "بهاء الدين قراقوش الأسدي" مشرفا على شئون قصر الخلافة بدلا من "مؤتمن الخلافة" المقتول، ثم أخذ يبني مؤسسته العسكرية الخاصة بدلا من الجيش الفاطمي، أما علاقته بنور الدين محمود فظلت تراوح مكانها بين الشك واليقين.

ثم جاءت سنة 565 هجرية / 1169م لتشد انتباه صلاح الدين إلى حقيقة المخاطر التي يمثلها الوجود الصليبي في المنطقة العربية، ففي عملية عسكرية مشتركة تحالف الصليبيون بقيادة ملكهم الطموح "عموري الأول" مع البيزنطيين بقيادة الإمبراطور "مانويل كومنينوس" (1143م- 1180م)، وشنوا هجوما على دمياط التي كانت الميناء المصري الرئيسي في البحر المتوسط، والتي كانت هدفا مفضلا للحملات الصليبية البحرية.

وفي شهر صفر من هذه السنة نزلت القوات الصليبية على ساحل دمياط بمساندة الأسطول البيزنطي الذي كان مؤلفا من مائتي سفينة، واستمر الحصار على دمياط واحدا وخمسين يوما دون أن يسفر عن أي نتائج إيجابية.

وبينما كانت مقاومة المدافعين عن المدينة عنيفة وبطولية، كشفت العداوة الكامنة بين الفرنج والبيزنطيين عن وجهها القبيح، وانتهى الأمر بخيبة كبيرة للمهاجمين، وحرق "عموري" معداته قبل انسحابه من المعركة على حين تكبد الأسطول البيزنطي خسائر جسيمة في الرجال والسفن قبل أن ينسحب عائدا إلى بلاده(12 ).

ومن ناحية أخرى، كانت تلك الهزيمة العسكرية التي حاقت بالتحالف الصليبي / البيزنطي انتصارا سياسيا لصلاح الدين أضيف إلى رصيده وزاد من مكانته، وكان ذلك النصر بداية طيبة لسلسلة من التصرفات السياسية والإجراءات العسكرية التي اتخذها صلاح الدين وشكلت إستراتيجيته لتحرير القدس...

ففي العام التالي 566 هجرية / 1170م شن صلاح الدين هجومًا على الصليبيين واسترد منهم غزة، وهاجم عسقلان والرملة، ثم خرج في شهر ربيع الأول من السنة نفسها إلى ميناء آيلة على البحر الأحمر (العقبة حاليا) ومعه المراكب مفصلة على ظهور الإبل، وهناك أعيد تركيبها لتنزل المياه وتستولي على الميناء لتحرم الصليبيين من المنفذ الوحيد لهم على البحر الأحمر(13 ).

وبذلك ضمن صلاح الدين السيطرة على طريق التجارة البحري الذي كانت تمر به بضائع المحيط الهندي غالية الثمن، كما ضمن أمن البحر الأحمر.

لقد كان على صلاح الدين أن يمزج بين العمل السياسي، والفعل العسكري، والإجراء الاقتصادي لكي يصل إلى هدفه النهائي: تحرير القدس من الفرنج الصليبيين.

النفوذ السياسي لصلاح الدين

وفي القاهرة أخذ صلاح الدين يقوي نفوذه السياسي من جهة، ويتخذ الخطوات اللازمة لتقوية الوضع العسكري من جهة أخرى، فقبض على أمراء الدولة الفاطمية واستولى على إقطاعاتهم وأحل محلهم الأمراء الشاميين الذين جاءوا معه.

بيد أن صلاح الدين تمهل في إعلان نهاية الدولة الفاطمية حتى حانت اللحظة المناسبة؛ وفي أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة 567 هجرية / 1171م أقيمت الخطبة للخليفة العباسي، وقطعت الخطبة للخليفة العاضد الفاطمي الذي مات في اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه دون أن يدري أنه آخر الخلفاء الفاطميين(14 ).

وهكذا، خلت الساحة الداخلية تماما لصلاح الدين، ولكن التوتر الذي شاب علاقته بنور الدين محمود أخذ يظهر على السطح، وكان ذلك جزءا من المتاعب السياسية التي تعين عليه أن يتعامل معها بحذر، وعلى جبهة المواجهة مع الصليبيين كان الملك "عموري الأول" ما يزال أسير سراب يجذبه نحو مصر؛ ولكنه في هذه المرة لم يسلك طريق الحرب وإنما سعى في طريق المؤامرة، فقد تآمر مع "عمارة اليمني" وبقايا القوى الموالية للفاطميين في القاهرة ضد صلاح الدين؛ وباءت المؤامرة بالفشل، وتم صلب عمارة اليمني وأعوانه.

وعجز عموري عن الحركة عندما علم بفشل المؤامرة وإعدام شركائه، وهرب الأسطول الذي أرسله النورمان في صقلية من أمام ساحل الإسكندرية بعد أن خسر عددا من رجاله وسفنه(15 ). وازدادت قامة صلاح الدين السياسية طولا...

وجاءت وفاة نور الدين محمود يوم 11 شوال سنة 569 هجرية / 15 مايو 1174م حلا قدريا لمشكلة العلاقة الحرجة بين الرجلين؛ ثم مات الملك الصليبي "عمورى الأول" بعد شهرين من وفاة نور الدين محمود لتزيح من المسرح السياسي والعسكري عدوًّا مزعجًا.

وكان وريث "عموري" في حكم مملكة بيت المقدس الصليبية صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره ومريضا بالجذام، وعلى الجانب الآخر، كان الصالح إسماعيل وريث نور الدين محمود طفلا أيضا، ولم يكن ممكنا أن تكون هناك ظروف سياسية مواتية أكثر من ذلك لكي يتقدم صلاح الدين على الطريق لتحقيق هدفه.

وفضلا عن التدهور السياسي والمنازعات الناشبة داخل الكيان الصليبي، لم تكن هناك قوة معاصرة يمكن للصليبيين أن يتحالفوا معها في مواجهة الجبهة التي كان صلاح الدين قد نجح في بنائها حتى ذلك الحين؛ ولم تكن أوروبا قادرة على إرسال المساعدات اللازمة للفرنج الصليبيين.

كان على صلاح الدين أن يبرهن أنه رجل تلك المرحلة، وأن يستغل الرياح السياسية المواتية لقيادة سفينة الجهاد ضد الاستيطان الصليبي، وكان أهم أهدافه في تلك المرحلة إعادة بناء ما تصدع من دولة الوحدة التي بناها نور الدين محمود.

وبينما كان الأمراء الذين تخاطفوا هذه الدولة ما يزالون غارقين في منازعاتهم الصغيرة ومنافساتهم للفوز بالوصاية على الأمير الصغير الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود(16)، كان صلاح الدين يتصرف بذكاء سياسي باهر؛ ففي سنة 570 هجرية / 1174م، جاءته في حماة (التي كان قد ضمها إلى دولته منذ فترة وجيزة) رسل الخليفة العباسي بالتشريف والأعلام السود (شعار العباسيين)، وتوقيع من الخليفة بسلطنة مصر وبلاد الشام... وغيرها(17 ).

التحرير والبناء

وكانت تلك مناورة سياسية بارعة جعلت من صلاح الدين الحاكم الشرعي، وأظهرت الآخرين في صورة الغاصبين الخارجين على الشرعية، ومنذ ذلك التاريخ أخذ صلاح الدين يسعى لتحقيق المرحلة الأولى من خطته لتحرير القدس، بناء الوحدة السياسية والعسكرية، واستعاد دمشق، وحمص، وحماة على التوالي؛ ثم سار إلى حلب التي طلب حاكمها المساعدة من "ريمون السانجيلي الثالث" حاكم طرابلس الذي جاء بجيشه، ولكنه لم يلبث أن تراجع عندما اقتربت القوات الإسلامية بقيادة صلاح الدين(18 )، وفي العام التالي 571 هجرية /1176م، عاد صلاح الدين ليفرض الحصار على حلب دونما نتيجة.

وعلى الجانب الصليبي كانت الأحوال في تدهور مستمر؛ ولم يكن ثمة أمل في أن يغالب الصليبيون مشكلاتهم الداخلية الناجمة عن وجود ملك مريض على عرش المملكة تحت وصاية "ريمون الثالث السانجبلي" كونت طرابلس الذي لم يكن يحظى بموافقة جميع الأمراء الفرنج الصليبيين. ومن ناحية أخرى، كانت المشكلات الداخلية في أوروبا تحول دون الالتفات إلى مشكلات المستوطنين الصليبيين في الشرق العربي.

أما الإمبراطور البيزنطي "مانويل كومنينوس" فقد قلم الأتراك السلاجقة أظافره ووضعوه في موقف صعب بعد أن ألحق به السلطان السلجوقي "ألب أرسلان الثاني" هزيمة كارثية في معركة مريوسيفالون Myriocephalon في سنة 1176م، حيث قضى على الجيش البيزنطي الذي كانت أسرة "كومنينوس" قد بنته على مدى عدة أجيال(19 ).

ولما كان جهاز المخابرات الذي بناه صلاح الدين قويا وممتازا، فقد عرف بسرعة أن التحالف البيزنطي الصليبي قد انهار؛ وانتهز الفرصة لشن هجوم على الصليبيين في منطقة الساحل الفلسطيني في جمادى الأولى سنة 573 هجرية / 1177م؛ وكانت تلك المرة الوحيدة التي أفرط فيها صلاح الدين في ثقته بنفسه، وسمح لقواته أن تتحلل من النظام الصارم الذي وضعه لها: فقد لقي جيشه هزيمة ثقيلة، ولكنها لم تغير من توازن القوى في المنطقة(20 ).

وأمضى صلاح الدين السنوات التالية في مناوشات ومعارك عسكرية خفيفة ضد الصليبيين، وضد الأمراء الزنكيين المنافسين في بلاد الشام وفى العراق على السواء؛ فقد كان يسير في مسارين متوازيين في الوقت نفسه: توحيد الجبهة العربية من جهة والاستعداد للحرب الفاصلة ضد الفرنج وتحرير القدس من جهة أخرى.

وفي سنة 578 هجرية / 1182م ، خرج صلاح الدين بجيشه قاصدا بلاد الشام، ولم يعد إلى مصر ثانية؛ فقد كانت السنوات التالية حاسمة في الاستعداد للمعركة الفاصلة ضد الصليبيين. وبقي السلطان طوال السنوات الباقية من عمره محاربا في فلسطين وبلاد الشام ضد الفرنج وضد الأمراء الزنكيين على السواء.

على الجانب الصليبي، كانت الأحوال تسير من سيئ إلى الأسوأ؛ إذ استعرت بينهم حمى الخصومات، وعجز ملكهم المجذوم عن فعل شيء، كما أن حليفهم القوى مانويل كومنين مات في سبتمبر 1180م، كما تدهورت الإمبراطورية البيزنطية بحيث لم تعد قوة يحسب لها أحد حسابا في شرق المتوسط(21 ).

الحرب النفسية

وعرف صلاح الدين كيف يستفيد من هذه الظروف للسير صوب هدفه، وقد استخدم ضد أعدائه من الفرنج ذلك المزيج المدهش من الدبلوماسية والدعاية والحرب النفسية واستعراض القوة الذي كان نور الدين يستخدمه، ولم يتردد في استخدام الأسلوب نفسه ضد منافسيه من الأمراء الزنكيين.

فعقد مع الفرنج هدنة سنة 1180م؛ ولكن ضعف الملك المريض "بلدوين الرابع" أغرى "رينالد دى شاتيون"، أمير الكرك المشاغب، الذي لم يفهم سياسة لا تتماشى مع نزواته العدوانية(22 ). وجاءت سنة 578 هجرية / 1182م، سنة حاسمة في قصة المواجهة الإسلامية / الصليبية.

ففي تلك الأثناء كانت دولة صلاح الدين تشمل مصر ومعظم الشام والعراق باستثناء حلب والموصل، وبقي ضم هاتين الإمارتين هدفا أمام عيني صلاح الدين لاستكمال بناء الجبهة المتحدة قبل الهجوم الحاسم على الصليبيين؛ بيد أن محاولاته للاستيلاء على حلب بالقوة لم تسفر عن شيء(23 ).

وفي الوقت نفسه، قام "رينالد دي شاتيون" (أرناط) بشن هجوم على ميناء أيلة في خريف تلك السنة، ثم أحرق عدة مراكب للتجار في البحر الأحمر، واقتربت قواته كثيرا من المدينة المنورة، وقام الأسطول المصري بمطاردة السفن الصليبية وأسرها بمن فيها؛ ثم طارد الجنود المسلمون عددًا من الفرنج الذين كانوا قد نزلوا على أرض الحجاز، وقبضوا عليهم، وساق الأمير "حسام الدين لؤلؤ"، قائد الأسطول المصري، اثنين من الفرنج إلى "منى"، وهناك "... نحرهما كما ُتنحر البدن..."، وعاد ببقية الأسرى إلى القاهرة، حيث أعدمهم جميعا(24 ).

حفزت هذه الحادثة التي أثارت ثائرة المسلمين في كل مكان السلطان صلاح الدين الأيوبي على المضي قدما في محاولاته السياسية والعسكرية لتوحيد قوى المسلمين، وهنا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن وعي صلاح الدين بالخطر الذي كان الفرنج يمثلونه من جهة، ومخاطر انقسام المنطقة العربية من جهة أخرى، كان قد نضج من خلال خبراته الأولى عندما كان ضابطا في جيش "أسد الدين شيركوه"(25 ).

ويرى الأستاذ "ديفيد جاكسون" أن السلطان كان يتمتع بقدر كبير من الفطنة السياسية، والبراعة في إدارة شئون الدولة، وكان يذهب إلى أبعد مدى في إعداد الأرضية السياسية والدبلوماسية قبل القيام بأي عمل عسكري(26 ).

على أية حال، جاءت سنة 579 هجرية /1184م لتشهد استسلام حلب لصلاح الدين بمقتضى اتفاقية صلح، وازدادت قوة السلطان رسوخا بالشكل الذي جعل مؤرخا في وزن "ستيفن رنسيمان" يقرر أنه على مدى القرنين السابقين لم يشهد تاريخ المنطقة العربية حاكما في قوة صلاح الدين الأيوبي(27 ).

ففي هذه السنة زحف بجيشه من دمشق قاصدا حصن الكرك مقر عدوه الكريه "أرناط"، وحاصر الحصن فترة من الزمن دون أن يحقق مأربه(28 )، ويغلب على الظن أن صلاح الدين كان يريد بهذه المناوشات العسكرية استعراض قوته لأغراض سياسية ودعائية في إطار الحرب النفسية التي كان يشنها ضد الفرنج.

إذ إنه لم يكن ليقدم على شن الحرب الشاملة ما دامت إمارة الموصل القوية تشكل تهديدا له، كما كان يدرك أن وحدة القوى السياسية والعسكرية في المنطقة العربية أمر ضروري، وشرط جوهري، لضمان النصر في حال نشوب الحرب الشاملة ضد الفرنج الصليبيين، ومن ناحية أخرى، كان يعرف تماما، بفضل مخابراته الممتازة، مدى الضعف الذي حاق بالكيان الصليبي؛ ومن ثم، كان في مناوشاته العسكرية ضد الصليبيين يحاول أن يزيد من ضعفهم وأن ينهك قواهم العسكرية والسياسية؛ حتى إذا ما جاءت اللحظة المناسبة تكون قدرتهم على المقاومة قد انهارت؛ ومن ناحية أخرى، كان يضع نصب عينيه هدف تحقيق الوحدة السياسية والعسكرية، أو العمل السياسي والعسكري المشترك على الأقل، قبل هذه المواجهة الشاملة.

في حصار الكرك

وعاد صلاح الدين إلى الهجوم على حصن الكرك الذي كان صاحبه المزعج "أرناط" من أكثر الصليبيين استفزازا وإجراما، كما كان يشكل تهديدا خطيرا على طريق القوافل بين مصر والشام؛ فضلا عن أنه لم يكن يحترم المعاهدات والاتفاقيات.

الخميس، 7 مايو 2009


القدس.. الأرض التي بارك الله فيها
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.. سيدنا مُحمَّدٍ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أمَّا بعد..
فإن ﴿الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ (الأنبياء: من الآية 71).. هي القدس.. وهي فلسطين، كما وصفها الله تعالى من فوق سبع سماواتٍ.. وفي هذه الأيام نعيش لنرى هذه الأرض المُباركة، وهي تتعرض لأبشع هجمةٍ ترمي إلى محو هُويتها العربيَّة الإسلاميَّة التَّاريخيَّة، وتغييرها، وفرض طابعٍ مستحدثٍ عليها، وهو الطابع اليهودي، أو ما يُعرف في الأدبيَّات السِّياسيَّة باسم التَّهويد.. ليًّا لعنق الحقيقة، ورغمًا عن أنف التَّاريخ..
ذلك التَّاريخ الذي يؤكد لنا حقائق لا تقبل الشَّك بأنَّ العرب اليبوسيين هم أول من حفِظ التَّاريخ الإنسانيُّ وجودهم في القدس، فآثارهم هناك تدل على أنَّهم سكنوا المنطقة المسماة الآن بفلسطين، حتى من قبل اختراع الكتابة والتَّدوين، وَفْق ما أظهرته دراسات الحفريات التي عُثِرَ عليها هناك, والتي أظهرت أنَّ قبائل اليبوسيين هاجرت من موطنها الأصلي في شبه الجزيرة العربية قبل ستة آلاف عامٍ، وسكنوا مدينة القدس وما حولها، فعرفت أرض فلسطين بأرض اليبوسيين، الذين سُجّل لهم إنشاء عاصمة دولتهم في مدينة القدس، وكانت تعرف آنذاك باسم (يبوس) أو (أورسالم).
وفي ذات الفترة تقريبًا هاجرت قبائل العرب الكنعانيين والأموريين (يعود أصلهم إلى قبائل العماليق، وهؤلاء من العرب العاربة أو العرب الأصليين وفق ما أثبتته دراسات الأنثروبولوجي) من شبه الجزيرة العربيَّة إلى فلسطين، وهاجر الفينيقيون الذين كانوا من بطون الكنعانيين، وتركَّز وجود هؤلاء في مناطق الشمال الفلسطينية، وأسسوا في فلسطين ما يزيد على مائتَيْ مدينة، كانت أبرزها بجانب (يبوس) أو القدس التابعة لليبوسيين، نابلس والخليل.
ومنذ تلك القرون المتطاولة التي تسبق التَّاريخ الإنساني المكتوب، لم يسكن غير العرب القدس وفلسطين، أمَّا اليهود فلم يحكموا هذه الأرض- خلافًا لما يزعمون- إلا لفترةٍ زمنيةٍ وجيزةٍ لا تزيد بحالٍ عن سبعين إلى ثمانين عامًا، خلال فترة بعثة نبي الله داوود، ونبي الله سليمان (عليهما السَّلام)، في القرن العاشر قبل الميلاد، بينما انتهى الوجود الديموجرافي اليهودي في المدينة نهائيًّا بالسَّبْيِ البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى عندما خُيِّر اليهود بين العودة من بابل في بلاد العراق إلى القدس بعد ذلك بقرون، عاد قليلٌ منهم فقط.
والتاريخ يخبرنا أنَّ من عاد منهم، حوَّل المسجد الأقصى، الذي أعاد نبيُّ الله سليمان (عليه السَّلام) بناءه كاملاً، إلى مكانٍ لتداول أموال الربا، وظهر فيهم الفساد؛ لدرجة أنَّ الله تعالى أرسل فيهم ثلاثة رسل في وقتٍ واحدٍ، وهم : زكريا ويحيى وعيسى (عليهم جميعًا أفضل الصَّلاة والسَّلام)، فقتلوا الأول والثَّاني، وحاولوا قتل الثالث إلا أنَّ الله نجاه.
وتحالفوا مع كل قوى الغزو التي طرأت على المدينة، من فُرسٍ ورومان وإغريق؛ سعيًا وراء العديد من المصالح المادية، وفي النهاية عادت القدس وفلسطين إلى الحكم العربي في ظل خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، في العام الخامس عشر للهجرة، وظلت- منذ ذلك الحين وحتى العام 1967م- تحت الحكم العربي الإسلامي، باستثناء فترة سيطرة الصليبيين عليها في القرن الحادي عشر الميلادي، حتى استردَّها صلاح الدِّين الأيوبي في العام 1087م.
ومنذ أنْ قام الكيان الصهيوني باحتلال مدينة القدس في حرب يونيو في العام 1967م، وهو يعمل جاهدًا للسَّيطرة عليها، وتغيير معالمها بهدف تهويدها، وإنهاء الوجود البشريِّ والسِّياسيِّ العربيِّ فيها، وقد استخدم لأجل ذلك الكثير من الوسائل، السِّياسيَّة والعسكريَّة و"القانونية"(!!)، وقام بالعديد من الإجراءات ضد المدينة وسكانها.
ولا يزال "الاستيطان" العنصرى في المدينة المُقدَّسة وما حولها، أحد أهم الوسائل لتحقيق هدف اليهود الأساسي تجاه القدس، ولأجل ذلك عملت سلطات الاحتلال الصهيوني على توسيع حدود القدس إلى الشَّرق والشَّمال؛ بحيث ضمت مغتصبات معاليه أدوميم وعنتوت وميشور جفعات بنيامين إلى الشَّرق، وجفعات زئيف وجفعات حاداشا، وجفعات هاردار من الشمال، بما أخلَّ بالتوازن الديموجرافي في المدينة لصالح شذاذ الآفاق من اليهود؛ حيث أصبحوا أغلبية بنسبة 55% إلى 45% فقط لصالح العرب.
كل ذلك صاحبه مصادرة لآلاف الدونمات من الأراضي التابعة للقرى والمدن والأحياء العربية التي أقيمت عليها المغتصبات، بينما يتم تطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها، وأُزيل الكثير منها، كما يحدث في أحياء سلوان والشيخ جراح والمغاربة وغيرها.
كما أنَّ بناء المغتصبات بالطريقة التي يقوم بها الصهاينة أدت إلى عزل مدينة القدس المحتلة وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة، بما يسقط حتى حل الحد الأدنى المعروف باسم "حل الدولتَيْن".
وتدعمت هذه السياسات بسلسلةٍ من "القوانين" الجائرة من بينها قانون أملاك الغائبين الذي يتم بمقتضاه نزع ملكية الأراضي والمنشآت التي يغيب عنها أصحابها الفلسطينيون لمددٍ طويلةٍ، وقانون التنظيم والتخطيط، الذي انبثق عنه مجموعة من الخطوات الإدارية والقانونية التعجيزية في مجالات الترخيص والبناء بالنسبة للعرب، بحيث أدى ذلك إلى تحويل ما يزيد على 40% من مساحة القدس إلى مناطق خضراء يمنع البناء للفلسطينيين عليها، وتُستخدم كاحتياط لبناء المغتصبات كما تمَّ في منطقة أبو غنيم، وذلك في مقابل تهجير الفلسطينيين من مدينة القدس، من أجل خلق واقعٍ جديدٍ، يكون فيه اليهود النسبة الغالبة في المدينة، تنفيذًا لتوصية الَّلجنة الوزاريَّة الصهيونية لشئون القدس الصادرة في العام 1973م، برئاسة جولدا مائير، والتي تقضي بأن لا يتجاوز عدد السكان الفلسطينيين في القدس 22% من المجموع العام لسكانها.
كل هذه التَّرتيبات تتم بالمخالفة لكل الاتفاقيات التي تنظم أوضاع الأراضي المحتلة، مثل اتفاقيَّة جنيف الرابعة الموقعة في العام 1949م، واتفاقيات لاهاي للحرب في العامَيْن 1899م و1907م، والتي تمنع جميعها على سلطات الاحتلال في أي بلدٍ محتلٍّ تغيير هويته الدِّيموغرافيَّة أو الطُّبوغرافيَّة، إضافةً إلى انطباق معاهدة لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة لعام 1954 على ما يجري في مدينة القدس.
كما أنَّ هذه الإجراءات الصهيونية الباطلة تخالف كافة القرارات الدَّوليَّة المعنية، فالقدس القديمة مسجلة رسميًّا ضمن لائحة التراث العالميِّ المهدد بالخطر لدى (اليونسكو)، وشجبت المنظمة، في أكثر من مرة الاعتداءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الصهيوني هناك، كما أنَّ مجلس الأمن أصدر قرارات عديدة، تؤكد إدانة وبطلان كل ما قام به الكيان الصهيوني من إجراءاتٍ في القدس، ويدعوه إلى الجلاء عن المدينة، وسائر الأراضي العربية المحتلة، ومن بينها القرارين الشهيرَيْن (242) الصادر في العام 1967م، و(338) الصادر في أعقاب حرب رمضان في العام 1973م.
صمتٌ مريبٌ
إلا أنَّ المجتمع الدولي لم يحرِّك ساكنًا لتنفيذ هذه القرارات ووقف ما يقوم به الكيان في القدس وفلسطين، بخلاف ما فعله في حالاتٍ مماثلةٍ إزاء معالمَ تراثيةٍ وتاريخيةٍ إنسانيَّةٍ، فالعالم الذي انتفض لإنقاذ معابد فيلة من مياه السد العالي، وبذل المستحيل لمنع تفجير تماثيل بوذا في أفغانستان، يقف الآن صامتًا، يشجعه على ذلك حالة العجز والشلل التى تعاني منها الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية.
كما أننا نلوم الشُّعوب العربيَّة والإسلاميَّة على ضعف ردَّةِ فعلها إزاء ما يجري في المدينة المُقدَّسة؛ حيث يخوض أهل الرباط في فلسطين معركة القدس وحدهم حتى الآن.. وعندما سُئِلَت جولدا مائير عن أسوأ لحظةٍ في حياتها، أجابت عندما احترق المسجد الأقصى في العام 1969م على يد متطرفٍ يهودي أسترالي، وعندما اندهش سامعوها لذلك، أوضحت أنَّها خَشِيَتْ أنْ يؤدِّي هذا الفعل إلى موجاتٍ من رد الفعل الغاضب، تدفع الشُّعوب الإسلاميَّة إلى التقاطُر إلى فلسطين بالملايين، لتحريرها وتحرير القدس بالقوة.
وعندما سُئِلَت هذه الهالكة عن أسعد لحظات حياتها، قالت بعد ذلك بساعة، عندما "اطمأنت" إلى أنَّ الشُّعوب الإسلاميَّة لم تتحرَّك كما تخوَّفت هي!!
نستنهض هممكم!!
يا أيها العرب والمسلمون.. إنَّني أدعوكم إلى التَّحرُّك المؤثر والفاعل لإفشال ما يرتكن إليه الصهاينة وأعوانهم من سلبية وعجز الأنظمة إزاء ما يجري، أدعوكم إلى التَّحرُّك الإيجابي لمواجهة أخطر مخططٍ تشهده الأمة ومقدساتها عبر التاريخ، من أخطر أعدائها.. اليهود وأعوانهم.. قال تعالى ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ (المائدة: من الآية 82).
إنَّ تخاذل الحُكَّام والأنظمة وتقصيرَها يرمي بالمسئولية على عاتقنا نحن الشعوب، وكلٌّ منَّا في موضعه..
فعلماء الدِّين مطلوبٌ منهم رفع الوعي العام لدى المسلمين بأهميَّة القدس ومكانة الأقصى في عقيدة المسلمين، وواجب كلِّ مسلمٍ إزاء ما يجري هناك..
والسِّياسيُّون مطلوبٌ منهم نبذ الخلافات وتوحيد المواقف وحشد الجماهير وراء أهل فلسطين في مواجهة هذه الهجمة..
والمثقفون من الواجب عليهم- من خلال كتاباتهم ومناقشاتهم وندواتهم وأدبياتهم- إشعال حماسة الجماهير للتصدِّي لهذا الخطر، كما تفعل كل الأمم الراقية في أوقات الشِّدَّة والخطر..
الشُّعوب.. فيجب أن تستعيد ثقتها بنفسها وأنها قادرة- إن امتلكت إرادة الفعل- أن تلعب دورًا مُهمًّا في مواجهة هذه الهجمة..
يا أيُّها النَّاس، إنَّ دماء الشهداء تناديكم، وحجارة الأقصى تستنجد بكم.. يا أحفاد المعتصم.. إن مقدساتِكم وأعراضَكم المهددة والمُنتَهكَة هناك تناديكم.. فهل من مجيبٍ؟!
وفي النَّهاية أذكرِّكُم ونفسي بقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (المائدة).
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل..
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء، 5 مايو 2009


فضيلة المرشد العام يكتب: حديث من القلب (3)

[12:22مكة المكرمة ] [05/05/2009]


الأستاذ محمد مهدي عاكف









الذكر وأثره في حياة الأخ المسلم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..

قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الأحزاب: 41، 42) وتكرر الأمر بالذكر الكثير في آيات متعددة، وقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ (متفق عليه)، وقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، وفي رواية: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ، قَالَ: "لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (الترمذي وأحمد).



الذكر أفضل الأعمال

أيها الإخوان..

حدَّد الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا رحمه الله مقصد الإخوان المسلمين بقوله: "إن الإخوان المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس، وتجديد الأرواح، وتقوية الأخلاق، وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة، ويعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تُبنى عليه نهضات الأمم والشعوب".



ويدرك الإخوان أن لا سبيل إلى ذلك إلا السبيل الذي سلكه الداعي الأول صلى الله عليه وسلم، وهو إيقاظ الأرواح، وتوصيلها بالله رب العالمين؛ عن طريق أفضل الأعمال وهو الذكر، قال صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ"، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى" (الترمذي)، وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الذكر سبب السبق والفوز، فقال:"سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ" قَالُوا: وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ (أي المولعون بكثرة الذكر) يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا" (الترمذي).

والذكر أعظم باب أنت داخله لله فاجعل له الأنفاس حراسا



ومن السبعة الذين يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظله: "رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" (متفق عليه).



والذكر هو سبب حياة القلب وتركه سبب موته.. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ (وفي رواية: مَثَلُ الْبَيْتِ) الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ" (متفق عليه).



والذكر سبب في طمأنينة القلوب.. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)، ذلك أنَّ قلب المؤمن شديد التأثر بالذكر ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 2)، ولذلك فلا شيء يشغل المؤمن عن الذكر، فالمؤمنون ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ (النور: من الآية 37).



والذكر يردّ المخطئ إلى الصواب.. فيسارع في الرجوع إلى الحق.. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: من الآية 135).



والذكر سبب لاستحقاق معية الله للعبد.. كما قال تعالى ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 152)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ" (مسلم)، وهي معيَّة بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا، فتخيَّل كم يكون مقتضى ذكر الله تعالى من الفتح والنصر والقوة والمعونة والتوفيق!.. ولذلك فالذكر أساس نجاح الداعي وشجاعته في المواجهة.



فالذاكر لله يدرك أن المقادير تجري بأمره، ويمتلئ قلبه بهيبة الله وعظمته، فلا يتردَّد في تبليغ الدعوة والجهر بالحق، وبهذا أمر الله موسى وهارون فقال: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ (طه: 42).



ترك الذكر قسوة للقلب.. قال تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الزمر: من الآية 22)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي" (الترمذي).



ومن عواقب الغفلة عن ذكر الله استحواذ الشيطان على العبد.. ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ (المجادلة: من الآية 19) ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف: من الآية 36).



الذكر معنى شامل لكثير من الطاعات.. يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: "اعلم يا أخي أن الذكر ليس المقصود به الذكر القولي فحسب، بل إن التوبة ذكر، والتفكُّر من أعلى أنواع الذكر، وطلب العلم ذكر، وطلب الرزق إذا حسُنت فيه النية ذكر، وكل أمر راقبتَ فيه ربك وتذكَّرتَ نظرَه إليك ورقابتَه فيه عليك ذكر، ولهذا كان العارف ذاكرًا على كل حالاته".. قَالَ قَتَادَةُ: "كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ، وَيَتَّجِرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ" (البخاري).



الذكر في كل وقت وعلى كل حال.. قال الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: "وإذ عرفت هذا أيها الأخ الكريم، فلا تستغرب بعدُ أن يكون المسلم ذاكرًا لله على كل حال، ولا تعجب إذا طالبنا الإخوان المسلمين أن يستنُّوا بسنَّة نبيهم ويقتدوا به، فيحفظوا هذه الأذكار ويتقربوا بها إلى العزيز الغفار.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾" (الأحزاب: 21).



أيها الإخوان..

لهذا كان من أصول تربيتنا الروحية المحافظة على الوظيفة الكبرى صباحًا ومساءً، فإن ضاق وقتُ الأخ فليقرأ الوظيفة الصغرى، ثم المحافظة على الذكر الدائم في كل المناسبات والأحوال، بل وفي كل الأوقات، وعلى كل الهيئات ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ (النساء: من الآية 103)، فذلك سمتُ أولي الألباب ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: من الآية 191).. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل عبادة فرضها الله تعالى جعل لها وقتًا مخصوصًا، وعذر العباد في غير أوقاتها، إلا الذكر لم يجعل الله له وقتًا مخصوصًا، قال ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: من الآية 41)".



فأقبلوا أيها الإخوان على الذكر بقلوب لله خاشعة، ونفوس في رحمة الله طامعة ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال: من الآية 45، والجمعة: من الآية 10).



وإلى لقاء آخر مع (حديث من القلب) أستودع الله دينكم وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم..

والله أكبر ولله الحمد..

محمد مهدي عاكف

الاثنين، 4 مايو 2009

هل تزيل الخنازير 22 مليون لغم بالعلمين؟

صبحي مجاهد




أحد حقول الألغام بمنطقة العلمين في الصحراء الغربية
القاهرة – اقترحت منظمة التضامن بين شعوب آسيا وإفريقيا "أفرو آسيوي" على الحكومة المصرية بعد قرارها إعدام الخنازير الموجودة في البلاد، أن ترسلها إلى منطقة العلمين المليئة بالألغام في الصحراء الغربية، كي تتخلص من الألغام ومن الخنازير في وقت واحد، خاصة أن مصر تعجز عن توفير تكلفة نزع هذه الألغام.

وأجاز علماء بالأزهر وأساتذة الشريعة تنفيذ هذا الاقتراح للتخلص من الألغام والخنازير التي يقدر عددها في مصر بنحو 250 ألف خنزير.

وأرسلت المنظمة مؤخرا رسالة إلى الحكومة تقترح عليها إرسال الخنازير التي قررت ذبحها وإعدامها لمنطقة الألغام بصحراء العلمين (شمالي مصر)؛ حيث يتم إطلاقها تحت مراقبة مشددة لتسير بمنطقة الألغام، وبذلك تكون الحكومة تخلصت من الألغام والخنازير في وقت واحد، بحسب ما ذكرته صحيفة "صوت الأمة" المصرية المستقلة في عددها الصادر أمس الأحد.

طالع أيضا:
وبدأت "الحرب على الخنازير" فى القاهرة
إنفلونزا الخنازير.. المكسيك تعلن "انتهاء الأسوأ"
إعدام الخنازير المملوكة لمسلم.. هل يعوض صاحبها؟!
د. مصباح.. 10أسئلة حول الوباء الخطير

وتعاني مصر منذ عام 1942 من الألغام التي زرعها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية "1939- 1945" في أرض العلمين مسرح العمليات القتالية، والتي بلغت نحو 22 مليون لغم، قامت بزرعها كل من بريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، بحجة عمل حواجز صناعية تعويضية عن النقص في الحواجز الطبيعية غير المتوفرة في الصحراء الغربية.

وتسببت تلك الحقول الشاسعة من الألغام في الكثير من الحوادث وسقط بسببها الكثير من الضحايا؛ حيث راح ضحيتها -بحسب السجلات المصرية- نحو 10 آلاف شخص ما بين قتيل ومصاب غالبيتهم من الأطفال والمدنيين.

كما أنها تمنع التطوير والاستفادة من هذه الأراضي في الزراعة أو التنقيب عن البترول والثروات المعدنية، وإقامة المشروعات التي كان يمكن أن تدر على مصر مئات الملايين من الدولارات.

ولا يقتصر الأمر على تلك الدولارات التي كان يمكن أن تذهب إلى الخزانة المصرية، بل تعداه إلى مئات الملايين التي تدفعها الخزانة المصرية كتعويضات للمتضررين من ضحايا تلك الألغام أو تكلفة إزالة تلك الألغام.

وأمام خطورة هذا الوضع تحركت مصر لمطالبة الدول التي قامت بزرع الألغام بتقديم خرائط لحقول الألغام والمساهمة في تكلفة إزالتها، ودارت مفاوضات عديدة بين مصر وتلك الدول استغرقت سنوات طويلة، إلا أنها لم تسفر عن خطوات كفيلة بنزع هذه الألغام التي تحصد أرواح الكثير من المصريين سنويا.

"لا مانع"

وفي تصريحات "لإسلام أون لاين.نت" اليوم الإثنين أجاز الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر السابق قيام الدولة بإطلاق الخنازير في العلمين كي تتخلص من ألغام الحرب، قائلا: "باعتباري مسلم أرى حرمة أكل الخنازير وتربيتها، وبالتالي يجوز التخلص منها بأي طريقة، حتى ولو بالتفجير ما دام أن هناك مصلحة وفائدة".

وأضاف أنه "بدلا من إعدام الخنازير بدون فائدة، من الممكن إعدامها بمصلحة في منطقة العلمين كي تكون هذه الأرض صالحة للمجتمع، وكي يعيش الناس آمنين مطمئنين، ونكون بذلك حمينا الأفراد من مخاطر الألغام التي تسبب أضرار بالغة بسكان المنطقة، مما سيكون له مردود عظيم وجيد على الدولة، وسيوفر عليها الملايين التي ستنفقها للتخلص من هذه الألغام".

وذكرت منظمة الصحة العالمية أن معاملها أكدت 898 حالة إصابة بفيروس إنفلونزا الخنازير (إتش1 إن1) في 19 دولة بالعالم من بينها حالة في إيطاليا.

ومتفقا مع الشيخ عاشور، يؤكد الدكتور محمد الشحات الجندي الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأستاذ الشريعة أنه "لا مانع من تنفيذ هذا الاقتراح"، قائلا إن" ما يقترح بشأن التخلص من الخنازير بوضعها في الصحراء الغربية المليئة بالألغام حتى تتفجر فيها تلك الألغام اقتراح لا بأس به، ولا مانع منه؛ لأنه يحقق الغرض من درء المفاسد التي تنشأ عن الإبقاء على الخنازير، وما يترتب على ذلك من انتشار الوباء".

الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى بالأزهر السابق يتفق أيضا مع هذا الاقتراح، مؤكدا أن إبادة الخنازير بأي طريقة جائزة، سواء كان ذلك بالقتل أو الإعدام أو بالتفجير في مناطق آمنة؛ لأنه محرم من عند الله.

" أمن قومي"

أما الدكتور مصطفى الشكعة عضو مجمع البحوث الإسلامية فيرى أن قضية التخلص من الخنازير ينبغي التصرف فيها بشكل يحافظ على الروح المصرية، ولا ينبغي إدخال الشرع في هذه المسألة حتى لا يأخذ طابعا خاصا؛ لكونها قضية قومية تتعلق بالحفاظ على سلامة الشعب المصري بغض النظر عن النظرة الدينية للخنزير.

وقال في تصريحات لإسلام أون لاين.نت إن: "كل دولة أدرى بشئونها من غيرها، ومن حق مصر أن تتصرف بالطريقة التي تناسبها، فما يناسب قطرا بعينه لا يناسب آخر، وإعدام الخنازير أو أي نوع من الحيوانات تصرف شرعي وطني من أجل المصلحة".

وأوضح الدكتور الشكعة قائلا: "لا نتعامل مع الخنازير كحيوان نجس، وإنما نتعامل معه كحيوان ناقل للمرض، والجميع وفيهم المسيحيون ورؤسائهم يوافقون على ما اتخذته مصر من طريقة للتخلص من هذا الحيوان".

وأعلن وزير الصحة حاتم الجبلي الأربعاء الماضي عقب اجتماع مع الرئيس المصري حسني مبارك أنه تقرر البدء فورا في ذبح كل قطعان الخنازير الموجودة في مصر؛ لتجنب ظهور مرض إنفلونزا الخنازير في البلاد، والذي يخشى من تحوله إلى وباء عالمي بعد ظهوره في العديد من دول العالم.

الأحد، 3 مايو 2009


مشعل رئيسًا للمكتب السياسى لـ"حماس" للمرة الرابعة على التوالي









الشرقية أون لاين - 03/05/2009


جدَّدت اليوم الاحد 3/5 حركة المقاومة الإسلامية "حماس" انتخاب خالد مشعل رئيسًا لمكتبها السياسي للمرة الرابعة على التوالي؛ حيث انتخب مشعل للمرة الأولى عام 1996م.

وقالت مصادرُ مطلعةٌ حسبما ذكر"المركز الفلسطيني للإعلام" : "إنه تم ضمُ شخصياتٍ قياديةٍ جديدةٍ إلى المكتب السياسي إضافةً إلى الحاليين، وهم القياديون: محمود الزهار، وخليل الحية، ونزار عوض الله أعضاء القيادة السياسية في قطاع غزة".

والجدير ذكره أن أعضاء المكتب الحاليين هم القياديون: موسى أبو مرزوق، وسامي خاطر، وعماد العلمي، ومحمد نزال، وعزت الرشق، ومحمد نصر.

ومن المنتظر أن تصدر حركة "حماس" بيانًا رسميًّا خلال اللحظات القادمة تعلن فيه أعضاء المكتب السياسي الجدد المنتخبين في الحركة.
لكي نقفز إلى الصفر









الشرقية أون لاين - 02/05/2009

فهمي هويدي


تلقيت عدة رسائل تعليقا على ما كتبته بخصوص صدمة غياب الجامعات ومراكز البحوث المصرية عن قائمة أفضل خمسمئة جامعة في العالم. وهو ما طرحت فيه سؤالين تمنيت أن نجيب عنهما، أحدهما عن أسباب هذا الفشل الذريع، والثاني عن كيفية إنقاذ الموقف وانتشال مؤسساتنا الأكاديمية من وهدتها، تخيرت مما تلقيته رسالة د.صلاح عز الأستاذ بهندسة القاهرة، بعدما وجدتها الأكثر شمولا وصراحة في الإجابة عن السؤالين، في رسالته قال د.صلاح عز ما يلي: في الإجابة عن السؤال الخاص بأسباب الفشل الأكاديمي، هناك عدة عوامل على رأسها: مناخ مسموم تنشره السلطة في المحيط الجامعي، وإدارة جامعية ارتضت تسييس الجامعة بتبعيتها الكاملة للسلطة، وأستاذ جامعي مستسلم لما تمليه الإدارة دون أي مقاومة، وأخيرا طالب جامعي هو ضحية ما سبق من أسباب.

باختصار، فإن تسميم السلطة للمناخ الجامعي والذي يؤدي إلى تفشي الإحباط واليأس بين الطلبة والأساتذة، هو نتيجة لاحتكار الحزب الحاكم للسياسة داخل الجامعة عن طريق: رفض انتخاب القيادات الجامعية وتعيين السلطة لها بناء على تقارير وموافقة مباحث أمن الدولة، عدم تعيين الطلبة المتفوقين كمعيدين إلا بموافقة مباحث أمن الدولة، انتشار ضباط أمن الدولة وبلطجية الداخلية داخل الحرم الجامعي، تزوير جميع انتخابات الاتحادات الطلابية في جميع الجامعات بلا استثناء وتعيين الطلبة المرضب عنهم أمنيا، انتشار مصفحات الأمن المركزي والبنادق الرشاشة حول الحرم الجامعي وكأنه وكر للجريمة والإرهاب. أضف إلى ما سبق: إجبار الجامعة على استيعاب أعداد هائلة من الطلبة هي غير مؤهلة لاستيعابهم، وعدم تخصيص تمويل يكفي للتعامل بكفاءة مع هذه الأعداد (تجهيز معامل ومكتبات وتوفير أحدث الأجهزة والدوريات العلمية ووسائل العرض). أما البحث العلمي، ففي بلاد العالم المتقدم شرقا وغربا، هناك خطة استراتيجية يضعها النظام الحاكم تُجرى على أساسها الأبحاث العلمية في الجامعات ومراكز الأبحاث. وهناك معامل مجهزة بأحدث الأجهزة لتمكين الباحث من إجراء أبحاث جادة قابلة للنشر في الدوريات العلمية الكبيرة. وهناك صناعات متقدمة (التي هي هدف الخطة الاستراتيجية) تتلقف نتائج هذه الأبحاث لتطبيقها صناعيا. أما في مصر فعندنا أبحاث هزلية لا هدف لها سوى الحصول على الترقية، ولا توجد رؤية أو خطة استراتيجية، ولا أجهزة ومعامل ولا صناعة متقدمة من أي نوع تساعد على توفير التمويل اللازم لإجراء الأبحاث. ولك أن تتخيل ماذا يمكن أن ينجزه أحمد زويل إذا ما قرر العودة والاستقرار في مصر.

أما بالنسبة للتدهور الأكاديمي والإنساني الذي أصاب الأستاذ الجامعي، فتكفي الإشارة إلى أن من يقبلون أن يكون تعيينهم بقرار من المباحث العامة، هم أساتذة جامعيون، وأن نسبة كبيرة من مسؤولي السلطة في مصر هم أساتذة جامعيون، وأن من يكتفون بالشكوى والتذمر ثم يرفضون المشاركة في أي فعالية «كالتظاهر والإضراب» للمطالبة بحقوقهم، هم أساتذة جامعيون، وأن من يرتضون لأنفسهم الهوان ويخضعون لتسييس الجامعة وتنفيذ كل ما تمليه عليهم الإدارة المعينة دون أدنى مقاومة أو احتجاج، هم أساتذة جامعيون.

أما الطلبة فهم ليسوا فقط ضحايا لسلطة باطشة وإدارة تابعة وهيئة تدريس سلبية، بل هم قبل ذلك ضحايا لنظام تعليمي عقيم قائم على الحفظ والتلقين من خلال مناهج متخلفة ودروس خصوصية ومراكز تعليمية. بتعبير آخر، إذا توافرت الإرادة لإصلاح التعليم الجامعي فالخطوة الأولى لابد أن تكون من الحضانة. نحن في حاجة إلى سنوات طويلة في ظل توافر الإرادة المستقلة لكي تنشأ أجيال أخرى من الطلبة والأساتذة لديها ما يؤهلها للنهوض بالتعليم الجامعي.

هنا أصل إلى سؤال المسؤول عن الفشل الأكاديمي. وإجابتي من دون تردد هي النظام الحالي الذي يتسلط على حكم مصر بالتزوير منذ ثلاثة عقود، والذي لم يترك قطاعا مهنيا إلا وأُعمل فيه التخريب. منذ عشرة آلاف يوم كانت مصر في نفس مستوى النمور الآسيوية. ولكن في الوقت الذي كانوا هم فيه يتقدمون إلى الأعلى يوما بعد يوم، كنا نحن نتراجع يوما بعد يوم حتى وصلنا إلى درجة عشرة آلاف تحت الصفر في قاع لا تبدو له نهاية. إن أخطر إنجازات هذه السلطة التي نجحت في تحقيقها، هي تكفير الشباب ببلده. فقد قتل نظام الحكم الانتماء لمصر في صدور الطلبة، فلا ترى شابا إلا ويتمنى الخروج من مصر وعدم العودة إليها بعد أن نال اليأس منه وهو لا يرى منذ مولده إلا وضعا واحدا كئيبا مفروضا عليه ولا أمل في تغييره.

ختاما، فإنه يستحيل إجراء أي إصلاحات في قطاع التعليم إلا بتوافر الشروط اللازمة لذلك، وعلى رأسها إرادة سياسية مستقلة، ثم قضاء مستقل، وصندوق انتخابي نظيف. إذا تحققت هذه الشروط نكون قد قفزنا قفزة واحدة إلى درجة الصفر من عشرة آلاف درجة تحته. عندئذ يمكننا الحديث عن التقدم إلى الأعلى وإجراء إصلاحات جدية.

الجمعة، 1 مايو 2009

بيان من الإخوان المسلمين بالشرقية حول مخطط تهويد القدس









الشرقية أون لاين - 30/04/2009


وسط هذا الصمت العربي الرسمي وهذا السكوت المشين وغض الطرف المفجع حول جريمة تهويد القدس والتأكيد علي أن دولة الكيان الصهيوني الغاضب هي دولة يهودية توطئة لطرد وتهجير عرب 1948 وأهل الضفة، ووسط هذا الكم الهائل من عمليات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس والتهجير القسري، وطرد سكان القدس من مساكنهم عنوة وتدميرها وطمس معالمها والتغير السكاني لمدينة القدس ووسط هذه السلبية الرسمية للحكومات والأنظمة العربية والإسلامية وهذا التعتيم الممنهج المقصود علي هذه الجريمة النكراء التي تعدت كل الخطوط الحمراء التي حاول أن يخُطّها المخلصون من أبناء هذه الأمة علي مر التاريخ .

وأن ما يحدث من حفريات في باب المغاربة والأنفاق تحت المسجد الأقصي لبناء هيكلهم المزعوم علي مرأى ومسمع من المسلمين وحكامهم لجريمة نكراء بكل المقاييس والأبعاد وتعدي سافر علي مقدسات المسلمين وحرماتهم، واستفزاز صارخ لمشاعر مليار ونصف مسلم .

ولذا فإننا نؤكد لجماهيرنا المسلمة وشعوبنا العربية المناهضة للعنصرية والأستبداد والاحتلال والظلم، والداعمة لكل أشكال المقاومة، والرافضة لكل مظاهر التطبيع مع العدو الصهيوني - أننا لن نكل ولن نمل من فضح كل المخططات الصهيونية وتعريتها وكشفها، ولن تفتر عزائمنا أبداً في الدفاع عن المسجد الأقصي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ودعم الشعب الفلسطيني المجاهد المناضل الصابر في جهاده ومعركته بل ومعركتنا ضد العدو الصهيوني الغاضب بكل الأساليب و الطرق والوسائل ونذكّر حكامنا أن الله عز وجل سائلهم عن تخاذلهم في حماية المقدسات وأن التاريخ والأجيال القادمة لن تعفيهم من المسئولية الكاملة إزاء سكوتهم وصمتهم ورضوخهم لهذا العدو الصهيوني الحاقد المدعوم بكل وسائل القوة وأساليب القمع والردع والقتل من المجتمع الغربي واللوبي الصهيوني.

وإننا لنهيب بكل المسلمين في بقاع الأرض من مشرقها إلي مغربها أن يهبوا دفاعاً عن عقيدتهم ودينهم ومقدساتهم وعن شرفهم وعن عروبتهم وعن مسرى رسول الله صلي الله عليه وسلم وعن الأقصى وعن أرضٍ باركها الله عز وجل، وأن يدعموا إخوانهم في فلسطين بكل نفيس وغالي ولا يتحقق هذا إلا :-

أولا: بالجهاد بالمال والنفس.

ثانيا : مقاطعة كل ما يدعم الكيان الصهيوني الغاضب ومن يسانده .

ثالثا : التعريف بأبعاد القضية لكل من تتعامل معهم .

رابعا : الدعاء فهو السلاح البتار الذي أمرنا الله به ووعدنا بالإجابة والقبول .

والله حسبنا ونعم الوكيل .

والله أكبر ولله الحمد ؛

الإخوان المسلمون بالشرقية



المصدر: الشرقية أون لاين

في يوم العمال.. دعوة للإتقان والإحسان

في يوم العمال.. دعوة للإتقان والإحسان









الشرقية أون لاين - 30/04/2009


رسالة من محمد مهدى عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..

عندما تنبّه عددٌ من المتابعين في عصر النهضة الصناعية في أوروبا، لما يتعرض له العمال، فرفعوا لواء الدفاع عنهم، وطالبوا بتحسين ظروف العمل، وتأمين متطلبات عيش كريم لهؤلاء العمال، وتمخّض عن تلك التحرّكات والمطالب ظهور عدد من الجمعيات والهيئات والنقابات العمالية. وقاد ذلك لجعل يوم الأول من مايو ذكرى تستعاد كل عام، وما لبثت أن اعتبرت يومًا عالميًّا للعمال، يُحتفل به في كل أنحاء العالم بهدف لفت الأنظار إلى دور العمال ومعاناتهم، والعمل على تأمين متطلبات عيش كريم لهم.

وفي الحقيقة فإن الإسلام قد سبق ذلك من مئات السنين ووضع أسسًا وضوابطَ للعمل والعمال، وبيّن الحقوق والواجبات- وقد تحدثنا عنها سابقًا- بل ورفع قيمة العمل وجعله قيمة تصل لمرتبة العبادة، وهو ما لم يحدث في شريعة سابقة.

نظرة الإسلام للعمل

لقد رفع الله درجة العمل إلى مرتبة العبادة وقرنه بالإيمان في كثير من الآيات قال الله تبارك وتعالى: @831;قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً@830;.

واعتنى الإسلام بالعمل وجعله نعمةً تستحق الشكر، قال تعالى: @831;لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ@830; (يّـس:35) فالآية تحث الإنسان على الأكل من كسبه وكده سواء كان بزراعة الأرض وهو ما أومأت أليه الآية: @831; مِنْ ثَمَرِهِ @830; أو بالتجارة المشروعة أو بالصناعة على اختلاف أشكالها، كما في قوله: @831; وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ @830;.

كما اعتبر الإسلام العمل نوعًا من الجهاد ينال به درجة المجاهدين وشرف المرابطين، فعندما رأى الصحابة شابًا قويًّا يسرع إلى عمله فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله؟! فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا هذا فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان".

والعمل الجاد مكفر للذنوب ومطهر للآثام فقال- صلى الله عليه وسلم-: "من بات كالاً من عمله بات مغفورًا له ".

والعمل مهما كان حجمه إذا نوى صاحبه إطعام الجائع وكساء العاري وشفاء المريض وإغناء الفقير كان له بذلك صدقة جارية وأجر غير ممنون ما انتفع الناس والحيوان بثمرة عمله. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".

إن الإسلام قد عَظم من قيمة العمل وأعلى قدر العاملين وحرم التبطل وحارب الخمول والكسل وهناك أحاديث تنهى عن القعود وتدفع إلى شحذ الهمم كقوله صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".

فقد حث الإسلام المسلم على أن يكون ديدنه في حياته كلها العمل والعطاء وتعمير الأرض وبناء الحياة حتى يدركه الموت أو الساعة قال- صلى الله عليه وسلم-: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها".

العمل قيمة في ذاته

العمل مهما كان قدره ومهما كان ربحه وعائده فهو يمنع صاحبه من التبذل وسقوط ماء الوجه وضياع هيبته بالسؤال وبذلك ينال العامل توقير المجتمع واحترامه ويحيى عزيزًا كريمًا ويموت جليلاً حميدًا، وفي حديث البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرًا له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه".

فالعمل في الإسلام قيمة في حد ذاته، فاليد العليا خير من اليد السفلى، واليد التي تعطي خير من اليد التي تأخذ، والعمل في الإسلام واجب حيوي وليس للتفاخر والتكبر والجاه والمظهرية فهو أساس الكسب والرزق الطيب لإعمار الأرض.

إن من أهم عوامل تقدم الأمة وتبوئها مكانتها المفقودة، تقدمها في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة مما يُحقق لها المنعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها، وقد رأينا يوم أن أصبحنا عالة على غيرنا في ما نأكل ونشرب ونلبس ونركب ونحن لا حول لنا ولا قوة، حيث نهبت أموالنا، وصودرت أراضينا ومقدساتنا؛ ولذا كان من مخطط الغرب لنا أن يبقينا شعوبًا جاهلةً متسولةً لكل تقنية تعيش وتقتات على صناعات غيرها.

لذا فإن العمل والإنتاج لسد حاجة المجتمع وتقوية بنيته، وزيادة تماسكه وترابطه، وتحقيق تقدمه وريادته في شرعنا فرض تأثم الأمة كلها إذا لم يتحقق لها ذلك، لهذا قال غير واحد من الفقهاء: "إن هذه الصناعات فرض على الكفاية فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها".

ضوابط العمل

إن العمل في الإسلام وسيلة تغني المسلم وتكفل له حياة كريمة فينبغي أن لا تشغله عن آخرته وتعطله عن تقربه من ربه وتعوقه عن خدمة دينه بل ينبغي أن ترفعه إلى العطاء ورعاية واجباته الدعوية. إن المؤمنين الصادقين ليسوا عالةً على غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى؛ لذا جاء في وصف المؤمنين الصادقين: @831;رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله@830; وقال تعالى: @831;يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادك عن ذكر الله@830;.

إن الإسلام يحثنا على ضرورة التحلي بالقيم الإيمانية، ومنها الإيمان بأن العمل عبادة وطاعة لله عز وجل وأن الله عز وجل سوف يحاسبه يوم القيامة عن عمله، قال الله تبارك وتعالى: @831;وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ@830; (التوبة: 105).

وكذلك الالتزام بالأخلاق الفاضلة ومنها: الأمانة والصدق والإخلاص والإتقان والإبداع والابتكار والوفاء، ولقد أشار القرآن إلى ذلك على لسان ابنة سيدنا شعيب عليه السلام عندما زكت سيدنا موسى عليه السلام للعمل عند أبيها: @831;قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ@830; (القصص: 26).

إتقان العمل

حضنا ديننا الحنيف على إتقان العمل وأن نحسنه وهو يدعونا لأن يصير الإحسان في الأعمال ثقافة عامة في المجتمع وخلقًا واقعًا وسلوكًا حيًّا متجليًا وبارزًا على كل كلمة أو قول أو فعل أو مهنة أو شريحة أو مؤسسة عامة أو خاصة؛ هذا هو غاية الإسلام في تعاليمه وأحكامه، إيجاد أمة محسنة وهي إذ تتخلق بهذا إنما تتصف بما وصف الله به نفسه القائل: @831; صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ @830;(النمل: من الآية88)

فبالإتقان تتقدم الأمة وتحقق ريادتها الواجبة في مختلف المجالات؛ صناعية وتجارية وزراعية وبهذا يقدم المسلمون أنفسهم للعالم الذي لا يُقدر إلا الأقوياء فى العلم ، والتقنية ، والإدارة ، والتخطيط ، والتنمية الشاملة والإعلام المبدع ، والاقتصاد القوى ... إلخ ، وللأسف فإن حظ المسلمين في هذه الجوانب متواضع ومحدود.

على العامل:

· أن يؤمن المسلم أن عمله محل نظر الله تعالى قال تعالى: @831;وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ@830;(التوبة: من الآية105).

· أن يعلم أن عمله أمانة عنده فلا يضيعها ويفرط فيها وقد قال الله تعالى: @831;وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ @830; (المؤمنون:8)

· أن يتحلى بالجد والمثابرة في العمل فالإتقان يحتاج إلى مجاهدة، ومغالبة لعوامل الكسل والإهمال لذا يقول ربنا: @831;وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ@830;(العنكبوت:69)

· أن يختار الإنسان العمل أو المهنة التي يحبها ويقتنع بها وتنسجم مع ميوله وإمكاناته ويعد هذا من الأمور الضرورية لنجاح الإنسان في عمله والإبداع فيه.

على الدولة وصاحب العمل:

· إكرام العامل وحسن معاملته حتى يقوى لديه الشعور بالانتماء والولاء .

· إعطاء العامل الأجر الذي يتناسب مع جهده ومهاراته وإتقانه، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة منهم رجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه فلم يعطه أجره"، وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- قال- صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه".

· أن يكون أجر العامل عادلاً بحيث يوفر له الحياة الكريمة من الطعام والشراب والملبس والمسكن، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس".

· عدم تكليف العامل ما لا يطيق وعدم إرهاقه بالإعمال الشاقة التي لا يقدر على إنفاذها، فإن فعلنا شيئًا من ذلك أعناه بأنفسنا أو بغيرنا، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم".

· الضمان الاجتماعي فمن حق كل مواطن تأمين راحته ومعيشته كائنًا من كان ما دام مؤديًا واجبه أو عاجزًا عن هذا الأداء بسبب قهري لا يستطيع أن يتغلب عليه، ولقد مر عمر بن الخطاب على يهودي يتكفف الناس فزجره واستفسر عما حمله على السؤال فلما تحقق من عجزه أرجع على نفسه باللائمة وقال له: "ما أنصفناك يا هذا أخذنا منك الجزية قويًّا وأهملناك ضعيفًا، أفرضوا له من بيت المال ما يكفيه".

· التشجيع المستمر والثناء على المجدين في عملهم والمتقنين في مهنتهم والمتفانين في صنعتهم، وهذا من أعظم الحوافز للإتقان والجد وزيادة الدقة والإحكام.

إننا ندعو العمال في يومهم إلى أن يتحلوا بأخلاق الإسلام ومبادئه، وأن يعطوا من أنفسهم القدوة الصالحة للأمة، ويجعلوا أفعالهم وإنجازاتهم تتحدث عنهم طلبًا لرضا الله سبحانه وتعالى ورفعةً لشأن أوطانهم ..

والله أكبر ولله الحمد

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..